أي موت قاهر بطيء ذاك الذي يعصف بالمعذبين في سجون النظام السوري٬ فيسلمون الروح وعيونهم نصف مفتوحة؟ عينا المراهق السوري أحمد المسلماني كانتا على هذه الحال أيًضا في صورة وثقت موته وأظهرت جسده الهزيل المعذب مسجى على الأرض ويعلوه رقم. لم نكن نعرف من هو أحمد حين ظهرت صورته مع آلاف غيرها قبل تسعة أشهر٬ لكننا اليوم عرفنا اسمه وشاهدنا صورا له بهيئته الهادئة قبل اعتقاله وتعذيبه وفنائه الحزين في السجن. وأحمد مراهق هربته عائلته من سوريا إلى لبنان عند اندلاع مظاهرات الاحتجاج السلمي عام 2011 خوفا عليه من الاعتقال الذي شمل شبانا كثيرين وفتية غيره٬ لكنه عاد بعد عام ليشارك في جنازة أمه التي أسلمت الروح وهي توصي عمه بأن يرعاه.
ماتت الأم واعتقل أحمد وهو في طريقه إلى دفنها.. ما هي تهمته؟
وجود أغنية معارضة للنظام على هاتفه اكتشفها حاجز أمني على مدخل مدينته درعا. اعتقل أحمد واختفى٬ ولم تكتشف عائلته ما حل به إلا حين ظهرت قبل أشهر الصور المسربة من المنشق الذي عرف باسم «قيصر» كاشفا آلافا من ضحايا التعذيب في سجون نظام بشار الأسد.
تلك الصور هزت ضمير العالم بعض الشيء٬ لكن الجميع عاود انشغاله بذاك الشيطان المفتعل المسمى «داعش» متجاهلا أساس المشكلة وجذرها المؤسس٬ أي نظام البعث الأسدي. اليوم وبعد أشهر من تحقيقات موسعة ومقابلات أعادت منظمة «هيومان رايتس ووتش» لنا صوغ بعض حكايات من شاهدنا صورهم. أنجز ذلك من خلال عمل استقصائي مزج ما بين المقاربة الصحافية والإنسانية والحقوقية لجهة خوض تلك الرحلة الشاقة في تقصي هوياتهم وحكاياتهم٬ وكيف انتهوا في أقبية نظام الأسد هم وآلاف آخرون.
هذا النظام كسر ونال من إنسانية آلاف السوريين ولا يزال حتى اللحظة. هذا التقرير المهم أعاد إلى الاهتمام الإعلامي حكايات سجون الأسد وارتكاباته. إنها الحقيقة الأولى المؤسسة للوضع المعقد الذي نعيشه اليوم. فمسار القسوة والعنف الوحشي للنظام يبقى المسؤول الأول عن حالنا اليوم٬ وليس تنظيم داعش سوى ملحق أو فصل في كتاب الموت الذي صاغه النظام السوري. وها هي الحقائق والأرقام لا تكذب وهي تقول لنا إن وحشية النظام السوري هي السبب الرئيسي في موت أكثر من 200 ألف سوري. في المقابلات التي ظهر فيها محققو «هيومان رايتس ووتش» كرروا مرة ثانية ما يعرفه العالم ويتجاهله٬ وهو أن 96 في المائة من القتلى المدنيين في سوريا سقطوا على يد قوات النظام السوري وليس أي أحد آخر. تقرير «هيومان رايتس ووتش»٬ الذي أخذ حيًزا مهًما في اهتمام الإعلام العالمي٬ يعيد تصويب النقاش ويعيد ترتيب الأولويات٬ وهو أمر نحتاجه بشدة في هذه اللحظة التي يعيش فيها العالم هستيريا «داعش» والرهاب من اللاجئين ومن المسلمين. فالقضاء على خطر فعلي يمثله «داعش» والتطرف الديني لن يحصل بل هو مستحيل من دون حل للوضع السوري لا يكون فيه بشار الأسد جزءا من المرحلة الانتقالية كما يروج. وما صور التعذيب وحكايات مثل حكاية أحمد سوى توثيق جديد لبعض لمحات ذاك العذاب الاستثنائي الذي يعيشه السوريون منذ اندلاع ثورتهم قبل خمس سنوات. نعم كانت ثورة سلمية٬ لكن سادية النظام حيال الطفل والمرأة والرجل وحتى الحيوان هي التي جعلت سوريا على ما هي عليه اليوم. لا شك أننا نعيش في عالم قاس لا تعوزه الصور والإثباتات ليعرف أصل المشكلة وجوهرها٬ لكننا في لحظة تلاقي مصالح الدول وتلاقي خبثها أيًضا٬ وهي بالتأكيد لحظة مقلقة ما لم يتم إعلاء الصوت وإعادة مسار الاهتمام.
تقرير «هيومان رايتس ووتش» مناسبة جديدة لتزخيم النقاش نحو أساس المأزق العالمي الذي نعيشه. لا حل من دون الإطاحة ببشار الأسد ونظامه الإجرامي٬ هنا أصل المشكلة.