ارتفاع منسوب الحماوة في الحرب «المضبوطة» المشتعلة في الجنوب لا تعني بالضرورة أننا أصبحنا على قاب قوسين من اندلاع الحرب الشاملة. وقد يكون محقاً من وصف الواقع بالقول إنّ «الجنوب يشتعل من دون أن ينفجر».
ولقد سادت نظرية خلال الأيام الماضية مفادها أنّ سلوك درب الحرب قد يشكّل الممر الواقعي للحلول. لكن المشكلة هنا أنّ الحرب الشاملة لن تنتهي بحسم واضح بالضربة القاضية، لا بل على العكس، وهو ما سيفتح أبواباً إضافية لنزاعات طويلة وتعقيدات مختلفة تزيد من حال الفوضى ولا تحدّ منها. والأكثر منطقية أن تكون أسباب ارتفاع مستوى السخونة الحاصل على علاقة بالمفاوضات الدائرة خلف الأبواب المغلقة.
وفي نهاية هذا الأسبوع سيزور وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه العاصمة اللبنانية، من ضمن جولة إقليمية ستشمل العاصمة السعودية. وتتزامن هذه الزيارة مع جولة لوزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن والتي ستشمل أيضاً الرياض. في وقت يدور الحديث عن زيارة لم يُحدّد موعدها ولم تتأكّد بعد، لمستشار الرئيس الأميركي آموس هوكستين الى لبنان وإسرائيل. بالتأكيد ليس هنالك من تزامن مقصود ومدروس بين الزيارات الثلاث، على رغم من أنّ خلفية التحّركات هي نفسها وتتعلق بترتيبات المنطقة لما بعد حرب غزة، أو ما اصطلح على تسميته باليوم التالي.
بلينكن يحضّر ملف الترتيبات السياسية الكبرى لما بعد رفح. والمقصود هنا في شكل أساسي مستقبل السلطة الفلسطينية، والأهم إنجاز مشروع التطبيع الإسرائيلي ـ السعودي وآثاره على التوازنات الإقليمية.
هوكستين يحمل بين يديه ملف الترتيبات في الجنوب عندما يحين موعد وقف إطلاق النار، وبالتالي التحضير لتطبيق القرار 1701 مرفقاً بمندرجاته وتوازناته السياسية.
أما سيجورنيه فهو يستميت للحفاظ على موطئ قدم وازن لبلاده في المنطقة إنطلاقاً من آخر ساحات نفوذها وهو لبنان، بعدما نجح الرئيس الفرنسي في التفاهم مع الإدارة الأميركية على الحفاظ على الدور الفرنسي، خلال زيارة بلينكن لباريس، والتي أثمرت زيارة ناجحة لجان إيڤ لودريان لواشنطن حيث التقى هوكستين.
لكن هذه الحركة الناشطة لا تعني بالضرورة أنّ النتائج أصبحت قريبة جداً، وربما لذلك يجري ملء الوقت الضائع بارتفاع منسوب الحماوة. فلا يزال هنالك بعض الوقت قبل أن تتضح صورة المشهد الميداني في رفح بكل مندرجاته العسكرية والبنيوية لتركيبة حركة «حماس»، والسكانية الديموغرافية للفلسطينيين.
وبخلاف الكلام المعلن والتصريحات الرسمية، فإنّ حزمة المساعدات المالية الضخمة التي أقرّتها واشنطن لإسرائيل تنبئ باستمرار الدعم الأميركي لحرب لن تنتهي قريباً جداً. لا بل فإنّ الطلب الإسرائيلي لمزيد من شحنات الأسلحة والذخائر يؤكّد ذلك. خصوصاً أنّ هذه الذخائر تتركز بمعظمها على مدفعية الدبابات وقذائف الهاون إضافة الى عربات مصفحة، وهو ما تحتاجه المعارك الهجومية على مسافات قصيرة ومتوسطة وداخل مناطق سكنية.
وكانت وكالة «الأسوشيتد برس» قد نقلت أنّ الأقمار الصناعية حصلت على صور لبناء مخيم جديد قرب مدينة خانيونس سيُخصّص للفلسطينيين الذين سيجري إجلاؤهم من رفح عند اندلاع المعارك، على أن تستغرق مدة الإخلاء من أسبوعين الى ثلاثة.
وفي موازاة ذلك، يستمر الجيش الأميركي في بناء الميناء العائم قبالة ساحل غزة، والذي من المفترض أن ينتهي العمل به خلال الأسبوعين المقبلين. مع الإشارة الى أقاويل كثيرة كانت قد رجّحت أن تكون إحدى أسباب إنشاء هذا الميناء العائم فتح ممر بحري لإجلاء مدنيين فلسطينيين الى بلدان عدة تمّ التفاهم معها مسبقاً، مثل كندا على سبيل المثال لا الحصر.
ووفق ما تقدّم يمكن الإستنتاج أنّ معركة رفح مؤجّلة لفترة أسبوعين إضافيين، وأنّ ما يجري حالياً هو التحضير لها من النواحي كافة. وإذا أضفنا الى ذلك التوقعات التي أشارت الى أنّ التقديرات الزمنية لانتهاء معركة رفح لا تقلّ عن ستة أسابيع، فهذا يعني أنّ أي وقف لاطلاق النار في جنوب لبنان لن يتحقق قبل شهرين على أفضل تقدير. وهو ما يضع التحركات الديبلوماسية الناشطة والجارية حالياً في إطار التحضيرات المطلوبة وليس في إطار صدور الحلول الآن.
وفي معرض تفسيرها، أو الأصح تبريرها، تقول أوساط ديبلوماسية غربية إنّ الهزة الهائلة التي أحدثتها عملية السابع من أكتوبر في المجتمع الإسرائيلي جعلته يفقد ثقته بمستقبله، ومن هنا تصنيفه للحرب القائمة بأنّها «وجودية». وتورد هذه الأوساط أنّ طلبات الإسرائيليين لجوازات أجنبية تضاعف خمس مرات عمّا كان عليه الوضع قبل عملية «طوفان الأقصى»، وهو ما يستوجب، وفق الحكومة الإسرائيلية، تحقيق نتائج ميدانية تعيد ثقة الإسرائيليين ببقاء كيانهم. لكن فات القادة الإسرائيليين أنّ الصدمة العنيفة التي أحدثتها عملية «طوفان الأقصى» ضاعف من حدّتها فشل الجيش الاسرائيلي في تحقيق انتصارات واضحة بعد العجز عن تحقيق الأهداف المرسومة، ما يستوجب البحث عن «إمكانية» البقاء وديمومته في مكان آخر.
في أي حال، فإنّ الملف الدسم هو الذي يحمله بلينكن. والصورة ليست محصورة بالسعودية وحدها، خصوصاً أنّ المعادلة الجاري رسمها تحمل ضمناً معادلة التوازن مع إيران على الساحات الإقليمية.
وللمناسبة، كان رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني قد أجرى زيارة مهمّة لواشنطن، وهي جاءت بعد تواصل تركي مع الإدارة الأميركية وسط همسات عن تسليم أميركي بدور تركي شمال العراق وسوريا وبهدف التوازن مع إيران. وتردّد خلال الأيام الماضية أنّ واشنطن أعطت الضوء الأخضر لتركيا للقيام بعملية عسكرية تطاول حزب العمال الكردستاني، وأنّه جرى وضع بغداد في الجو.
وفي الوقت نفسه جاءت العقوبات الأميركية غير المسبوقة على كتيبة «نيتساح يهودا» في الجيش الاسرائيلي لترسم خطاً أحمر يحظّر على إسرائيل العمل على تهجير فلسطينيي الضفة الغربية، كما هو حاصل في غزة. فما ينطبق على غزة لا ينطبق على الضفة الغربية.
وبالتزامن، كشف الرئيس السوري بشار الأسد عن مفاوضات أميركية ـ سورية للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011. صحيح أنّ هذه المفاوضات التي حصلت في سلطنة عمان وتضمنت طلباً «إنتخابياً» أميركياً بالكشف عن مصير الصحافي الأميركي أوستن تايس والإفراج عنه لم تؤدِ الى أي نتيجة، إلّا أنّها تعني كثيراً لجهة فتح الأبواب أمام مسار الإعتراف بالأسد وفي انتظار إنجاز الاصلاحات الدستورية الموعودة والتي ستستضيفها السعودية على ما يبدو. وكلام الأسد عن عدم تمخّض نتائج فورية (والمقصود عدم اتضاح مصير تايس) ولكن كل شيء سيتغيّر وفق قول الأسد، إنما يصبّ في هذا الإتجاه. لكن السؤال يبقى حول التوقيت الذي اختاره الرئيس السوري للكشف عن هذه الاتصالات، وهنا يكمن الجانب الأهم.
ووفق هذا التوقيت الإقليمي، سارعت باريس الى احتضان اجتماعاتها مع لبنان بشخص رئيس الحكومة وقائد الجيش. وبات معلوماً أنّ اجتماع باريس جاء بعد إنجاز تفاهم مع الإدارة الأميركية من خلال بلينكن، عندما زار باريس وبعدها زيارة لودريان ولقاؤه بهوكستين.
الواضح أنّ باريس القلقة على دورها في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد ظهور المنافسة القطرية لها في لبنان، انتزعت توكيلاً أميركياً مجدداً، وهي تقاتل للاحتفاظ بحضورها ونفوذها. ومن هنا جولة سيجورنيه المرتقبة. ما يعني أنّ انتظار نتائج حاسمة الآن لا يبدو أمراً واقعياً.
ربما النظرة الواقعية تؤشر الى أنّ كل ما يحصل يدخل في إطار التحضيرات الناشطة لترتيب كل الملف الى حين تحقيق وقف إطلاق النار. فحتى هوكستين عمل في الظل طوال الفترة الماضية، ومن خلال التواصل مع الرئيس نبيه بري بعيداً من الإعلام لتحضير الملف بكامله. ووفق مطلعين فإنّ ملف وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 أصبح متفاهماً حوله بنسبة 90%.
وجاء اجتماع باريس في الإتجاه نفسه، خصوصاً لجهة المساعدات التي يحتاجها الجيش اللبناني للقيام بالمهمات التي تنتظره.
ولكن النقطة الجديدة، أنّ البند المتعلق بالاستحقاق الرئاسي يجب أن يكون في مرتبة متقدّمة، أي فوراً بعد إعلان وقف إطلاق النار.
وإذا كان واضحاً أنّه لا توجد مشاريع للعب بالاستقرار الداخلي للدول الكبرى في المنطقة، وبالتالي لا نية لضرب الأنظمة القائمة، فإنّ إعادة إنتاج السلطة السياسية في لبنان تصبح أقل تعقيداً وصعوبة.
ففي إيران إجراءات جديدة أكثر تشدّداً في موضوع الحجاب على الرأس. وكانت الرقابة في هذا المضمار قد تراخت بعض الشيء بعد الاضطرابات التي حصلت منذ أقل من سنتين. وكذلك كشف الرئيس السوري عن التواصل مع الأميركيين له معانيه في هذا الإطار، ما يعني أنّ سلوك درب الحلول في لبنان يصبح ميسراً أكثر.
لكن نقطة الانطلاق تبقى مرتبطة بانتهاء القتال في غزة، ما يستوجب استهلاك اسابيع الانتظار بالتحضير جيداً لمرحلة «اليوم التالي». ومع عدم الإغفال أنّ المراحل المشابهة في التاريخ كانت تشكّل دائماً مراحل عدم إتزان غامضة، ويكون فيها سلاح الإغتيالات حاضراً من أجل «تحسين» شروط المعادلة التي سترسو مستقبلاً.