في ظلّ الإخفاق الإسرائيلي في غزة وانسداد أفق التسوية، يمكن توقّع الأسوأ من حكومة المجانين في تل أبيب. وعلى رغم من وجود دوافع إسرائيلية لشن عدوان واسع على لبنان لخلط الأوراق واستدراج التدخّل الأميركي نحو الحرب الإقليمية لإشراك واشنطن في تحمّل الأعباء والتداعيات، فإنّ الوقائع والقراءة العسكرية والسياسية والمنطقية للواقع الإسرائيلي والإقليمي والدولي توحي عكس ذلك:
ـ لا يُمكن لإسرائيل خوض حرب شاملة على لبنان من دون ضوء أخضر أميركي، لما تحتاجه من دعم متعدّد الوجوه على غرار ما يحصل في غزة.. وإذا كانت إسرائيل لديها حرّية التصرّف في غزة والضفة لما لها من تأثير مباشر على أمنها القومي ووجودها، فإنّ الهامش يضيق خارج جغرافية فلسطين، ويدخل ضمن فلك الأمن القومي الأميركي لا يمكن العبث الإسرائيلي به بلا موافقة أميركية، والشواهد كثيرة، فعدوان تموز 2006 كان لتنفيذ مشروع أميركي وصفته وزيرة الخارجية الأميركية غوندوليزا رايس آنذاك خلال زيارتها بيروت بـ«الشرق الأوسط الجديد».
– إنّ الحرب الشاملة تمسّ مصلحة أميركية ـ إسرائيلية ـ أوروبية مشتركة، تتعلق بمنصات النفط والغاز في «كاريش» و»تامار» وغيرهما من الحقول، بعقود عشرات مليارات الدولارات، والمدرجة على بنك أهداف «حزب الله».. فالإستقرار على الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية مصلحة أميركية ـ أوروبية لاستمرار تدفق «الغاز الإسرائيلي» من المتوسط إلى أوروبا.
ـ ما سبق يُشكّل جزءاً من قوة الردع لدى المقاومة التي لم تستخدم سوى نسبة ضئيلة من قدراتها الدفاعية والهجومية، عكَس الميدان خلال الاشهر التسعة الماضية وتحديداً الأخير عيّنة من المفاجآت.. إنّ امتلاك المقاومة قدرة تعطيل حركة الطيران الحربي الإسرائيلي سيجمّد أي حرب واسعة قبل فحص «ميزان القوى الجوي»، إضافة الى فحص قدرة «القبب الحديد» التي عليها أن تتصدّى لـ6 آلاف صاروخ يومياً وفق تقرير جهاز «الشاباك» الذي عرض «السيناريو» المتوقع لليوم الأول للحرب مع «حزب الله» العام الماضي.
لكن زمن المفاجآت لم يحِن بعد.. يقول قياديون في المقاومة.. فالحزب لم يستخدم خزّانه البشري ولا مخزونه الإستراتيجي من الصواريخ الدقيقة والمتوسطة والبعيدة .. وإذا كانت حرب تموز لم تدفع الحزب لأن يُفرج عن كل مفاجآته فبالتأكيد لا يمكن توقّع طبيعة مفاجآته بعد 18 عاماً خاض خلالها مختلف أنواع الحروب والأسلحة في مواجهة الحركات الإرهابية في سوريا على مدة 10 سنوات، وبعدما استفاد من اشهر الحرب التسعة كحقل اختبار للتكتيكات والإستراتيجيات العسكرية والتكنولوجية والسيبرانية، وراكم خبرة هائلة تُضاهي خبرات جيوش كبرى في المنطقة، كما لم يُشغِل الحزب بعد قواعده الخلفية المنتشرة على طول المدى الحيوي المتصل في اتجاه البقاع وسوريا والعراق الى إيران عبر شبكة معقّدة من الأنفاق، فيما غالبية قوات «الرضوان» لم تنخرط بقوة حتى الآن في الحرب الدائرة.
ـ تُدرك دوائر ومراكز القرار في «البيت الأبيض» أنّ الحرب الشاملة ستؤدي للإنزلاق الى حرب إقليمية، وعندما تدقّ الساعة ستكسر الجحافل اليمنية والعراقية الجغرافيا وتعبُر إلى لبنان وقد تدخل وحدة «الرضوان» إلى الجليل، وقد تجد سوريا فرصة لدخول الحرب لاستعادة أرضها المحتلة في الجولان، وتُفاجئ إيران العالم بتكرار ليلة 14 نيسان يومياً، حيث نقل موقع «أكسيوس» عن مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى، أنّ «عملية عسكرية في لبنان ولو محدودة خيار غير واقعي، وقد يستدرج إيران والحلفاء في المنطقة إلى هذه الحرب». وحينها تصبح القواعد والسفارات والمصالح الأميركية الواقعة ضمن شعاع 2000 كلم أهدافاً لحركات المقاومة. ولا مصلحة للإدارة الحالية في خوض هذه الحرب قبل بضعة أشهر من الإنتخابات الأميركية، وهي تخوض حرباً مع روسيا في أوكرانيا ونزاعاً للحدّ من التمدّد الصيني العالمي.
ـ ثقل جبهة الشمال والتداعيات على المستوطنات وضعت «إسرائيل» أمام خيارات صعبة من ضمنها توسيع الحرب، لكن لو كانت تملك الإمكانات لخوضها وضمان الإنتصار فيها لما تردّدت بذلك طوال الاشهر التسعة الماضية، على رغم من أنّها كانت تملك بداية الدوافع والذريعة والدعم الأميركي الغربي المطلق والتعاطف الدولي (نوقش هذا الخيار في»الكابينت» الإسرائيلي في الأيام الأولى للحرب ورفضه نتنياهو)، ولما كان الأميركيون والأوروبيون أرسلوا عشرات الموفدين إلى لبنان لنقل رسائل التهديد والعروض المغرية لـ»حزب الله» لوقف القتال، حتى اقتصر بعضها على إزالة بعض المنشآت العسكرية ولو «ظاهرياً»، فيما اضطر الرئيس الأميركي لإغراء «إسرائيل»: «أعطيكم اتفاق تهدئة على الجبهة الجنوبية مقابل وقف الحرب في غزة».
ـ على رغم من الدعم الأميركي ـ الغربي المطلق للكيان، فإنّ الطاقة القتالية والتسليحية للجيش الإسرائيلي استُنزِفت ولم تعد تخدمه لخوض جبهة جديدة مع «حزب الله»، يقول جنرالات وخبراء استراتيجيون إسرائيليون، إنّه يفوق حركة «حماس» قوة بأضعاف، فيما رقعة الحرب ليست غزة أو مخيم جنين، بل مدى حيوياً يصل الجنوب بالبقاع امتداداً الى سوريا وإيران، وسيكون على الجيش، خوض المواجهة مع «حزب الله» بواقع عسكري كالآتي: ضربة 7 تشرين الإستراتيجية.. إخفاق كبير في غزة باعتراف الجنرالات السابقين والحاليين الكبار.. ألوية منهارة ومستنزفة استخدمت طاقتها القصوى وفقدت الروح القتالية، ولا يزال ثُلث الفرق المقاتلة في مستشفيات المعالجة النفسية. تشظ سياسي داخلي وتحولات خارجية ضاغطة بقوة على الكيان.
– على رغم من ارتفاع حدّة المواجهات واحتمالات الحرب الشاملة بعد اغتيال القيادي في المقاومة طالب عبدالله، إلّا أنّ «الحزب» وفق مطلعين سيختار مستوى الردّ الذي يؤلم العدو لكن لا ينزلق إلى الحرب الشاملة، لكنه سيذهب إليها مكرهاً إذا فُرِضت عليه. علماً أنّ اغتيال المسؤول في حركة «حماس» صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت أشدّ خطراً من اغتيال عبدالله لجهة النطاق الجغرافي للعملية، لكن المقاومة واءمت ردّها مع قرار القيادة تفادي الحرب الشاملة الذي يتقاطع مع تقدير جهات ديبلوماسية غربية بأنّ الحزب لا يريدها.
ما تقدّم يستبعد احتمال الحرب الشاملة في لبنان في المدى المنظور، لأنّ الأخطاء وردود الفعل الإنتقامية لا تؤدي إلى حرب في غياب القرار والمشروع، فإسرائيل تريد الحرب لأنّها تخشى تداعياتها ولا تضمن الإنتصار فيها ولا تملك قراراً وخطة لليوم التالي لهذه الحرب، وهي لا تملك ذلك لغزة فكيف للبنان! ويكفي غياب الخطاب التهديدي الإسرائيلي العالي السقف بحرق لبنان والإكتفاء بالحديث عن «ردّ قوي»، للدلالة الى ذلك. اما «حزب الله» فلن يكون البادئ بالحرب بل سيخوضها إن فُرضت عليه، وأيضاً لا يملك مشروعاً لأنّه لا يرى أنّها الحرب الكبرى.. لذلك الطرفان سيختاران الردود المؤلمة التي لا تأخذهما إلى الحرب الشاملة.