بين حانا الحرب ومانا المهرجانات
لبنان… لبنانان… لبنانات… هذا ما آل إليه بلدنا الذي نُعت- ذات يوم- بسويسرا الشرق. هو بلدٌ يرفض بعض من فيه سماع كلمة فدرالية أو لامركزية أو حتى مطار حالات ومطار القليعات ويتصرف كأنه الآمر الناهي رافعاً الصوت والإصبع، وفي المقابل يلهث بعض من فيه وراء دولة مفقودة كلما قدموا لها أكثر إنتقمت منهم أكثر. هو بلدٌ يكذب من يُمسكون برقابِ البشر فيه أكثر من دقات قلوبهم عملاً بمقولة: إكذب إكذب حتى تصدق نفسك. هم يتحركون ليقولوا: نحن نعمل… ونحن نقرص أنفسنا لنتذكر أننا أحياء. هم يتحدثون عن مسيّرات ومقاومة إسلاميّة وغارات وكوفيات… وهناك، سواهم، من يخبروننا عن مهرجانات في بيبلوس وبيروت وإهدن ويطلقون مواقيت حفلات أصالة ومحمد رمضان وتامر حسني ووائل جسار وعمرو دياب… وبين هنا وهناك وهنالك «فرّخ» لبنان لبنانات.
اليوم، مع بزوغ الفجر، يهاجر الشاب جو (24 عاماً) الى كندا. هو لبناني يعيش في جزء من الوطن الذي يثق – أو كان يثق – بوجوب حضور الدولة ولا أحد غيرها. هو كبر بالشبر والنذر وظلّ متمسكاً بالنظرة الإيجابية في حين كان رفاقه يهاجرون الواحد تلو الآخر. أبى هو أن يغادر. أراد أن يبقى ويكبر هنا وقبل ليلتين من عيد الميلاد الأخير صودف مروره على طريق المرفأ ففاض عليه – مع آخرين- النهر وسبح في مجارير دولة تزداد يوماً بعد يوم قبحاً. بيعت مركبته الجديدة خردة ولم يسأل عنه وعنها أحد. يومها أغمض عينيه وفكّر كثيراً – أكثر بكثير من عمره – وقرّر ألّا يفعل ما فعله والده: التمسك بالبقاء. اليوم هاجر جو ومعه قماشة عليها رسم العلم اللبناني.
في المقلب الآخر من الوطن، هناك شباب يكبرون على هتافات وشعارات «المقاومة الإسلامية في لبنان» ويرفعون الكوفية أولاً ويولون الأولوية لأبعد من حدود الوطن. هناك، يسقط يومياً قتلى، في ريعان الشباب، يسمّون شهداء. الإستشهاد أمر عظيم لكن له مفهوم مختلف تماماً بين لبنان ولبنان. هناك، يُدفعون للإستشهاد وهنا- يا ما شباب استشهدوا- دفاعاً عن البقاء. وفي المكانين سقط – ويسقط – أحلى الشباب.
اليوم، شبابُ لبنان يرحلون، إما هجرة وإما يقتلون. والرحيل هو القاسم المشترك الوحيد على مساحة 10452 كيلومتراً.
وماذا بعد؟
حياة وموت
كم مضى على آخر زيارة قمتم بها الى العمق الجنوبي؟ أتتذكرون؟ قبل الثامن من تشرين الأول 2023؟ الجنوب تغيّر. والصورة الكاملة ضبابية. دمار كثير وبيوت بنيت بحبّ سوّيت بالأرض. وما يُعرض من خراب ليس إلا غيضاً من فيض. لا حياة هناك أما في المقلب الآخر، فتستعدّ المناطق لمهرجانات صيف 2024. لبنان، الذي بحجم حبة الرز على الخارطة العالمية، يعيش تباينات جمّة. طرابلس سُمّيت في 2024 عاصمة الثقافة العربية. المهرجانات السنوية باتت تقليداً عريقاً في الثقافة لدى قسم من لبنان، بعضها ليومٍ واحد وبعضها الآخر يستمرّ لأيامٍ وأسابيع. الثقافة مقاومة أيضاً. هي صمود أخذه بعض اللبنانيين عهداً على أنفسهم. لكن، من لا يعرف لبنان واللبنانيين لن يفهم كيف يمكن لبلد، بحجم لبنان الصغير مساحة، أن يحيا الضدين: ثقافة حياة وثقافة تطغى عليها للأسف حالة الموت المتمادية. اللبنانيون على موعد هذا الصيف مع مهرجانات بيبلوس وجونيه وزحلة وجبيل والبترون وإهدن وصور وصيدا والقبيات. بيت الدين إعتذرت عن إقامة مهرجانها السنوي وستكتفي بمعارض كانت تُقام على هامش الفعاليات الكبرى. أما بعلبك فحائرة بين ثقافة الصمود من خلال مهرجان سنوي اعتادت إقامته وبين شعارات تسللت في أرجائها مذيلة بعبارة: على طريق القدس.
المطار وطريقه
لبنان ليس واحداً. مطار رفيق الحريري الدولي يصمد في خوفٍ من الآتي. فماذا يضمن أن من سيغادر من مدارجه موقتا سيتمكن من العودة عبره؟ لا أحد. لا شيء. لا ضمانات. فلبنان، من أقصاه الى أقصاه، في قلقٍ وإن اختلفت الإهتمامات بين لبنان ولبنان. فلماذا، والحال هكذا، لا يجرأون على التفكير في توسيع مطار حامات أو تفعيل مطار القليعات؟ من قال إن هذا شكل من أشكال التقسيم طالما ما يجري في الجنوب اللبناني مختلف عما يجري في لبناني الشمالي وبيروت؟
الأفكار تختلف. النهج مختلف. ولبنان ما عاد يشبه لبنان الذي يريده لبنانيون كثيرون. أما من يراوغ فيحقّ له أن يقول أيّ شيء آخر. نذهب الى مطار بيروت فتحجب نظرنا عشرات الصور للرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى في سقوط مروحية ووزير خارجيته. ما لنا وله. ما لنا ولصور الإمام الخميني. ولماذا ننفذ من المطار الى رحاب الوطن عبر جادة الإمام الخميني لا جادة الرئيس بشير الجميل أو الرئيس رفيق الحريري؟ صور وشعارات طريق المطار لا نجدها في جبل لبنان ولبنان الشمالي. لبنان لبنانات.
هناك، وضعوا قجة يطلبون تبرعاً لشراء صواريخ. هي استفتاء على شعبية الحزب الأصفر بعد الخسائر الكبيرة التي مني بها. وهنا، وضعوا روزنامة يحددون فيها البرامج المنتظرة لتطويب البطريرك الدويهي في بكركي في 2 آب. هي دعوة روحية. هناك، على موقع المنار الإلكتروني، إستفتاء: هل تخلى نتنياهو وقادة العدو عن الأسرى لدى حماس؟ وهنالك، عبر شاشة تلفزيون لبنان، برنامج مشاكل وحلول يعرض عشرات المشاكل ولا تجد حلاً لواحدٍ منها. اللبنانيون لهم هموم كثيرة كبيرة هائلة.
منذ أيام، لعلع الرصاص في قلب بيروت. فهل تقترب بيروت، في الشكل، من مناطق جنوبية حدودية؟ هل تتلاقى بيروت اللبنانية مع الجنوب اللبناني؟ هي أسئلة تبادرت سريعاً الى ساكني محيط منطقة الزعيترية (الواقعة بين منطقتي السبتية والفنار). الرصاص أطلق «متل الشتي» في منطقة كانت تحتضن أبو ليلى – تاجر المخدرات – ومن يدعون فائض القوّة ويرفعون أعلاماً حزبية ممانعة. هي منطقة كان يفترض أن تكون بيروتية لكن ما بدا أنها متمردة، منفصلة، عن العاصمة. هي منطقة في قلب بيروت الكبرى ولا تشبه بيروت. فهل يفترض البقاء رهينة كلام بعض من يشهدون على هذا «الإنفصال»، على أن الفدرالية هي مسّ بالسلم الأهلي ولديهم نوايا تقسيمية؟ هل يفترض أن يموت أناس بالرصاص الطائش ويهرعون الى زواريب البيوت كلما حلا لأحدهم إطلاق رشقات ليقال أنهم وطنيون؟ الفدرالية ليست تقسيماً بل هي اتحاد. فهل نخاف منها ونأمن للرصاص الطائش والخطوات الطائشة والرهانات الطائشة؟
اللامركزية والطائفية
بيروت بيروتان ولبنان لبنانات… ولا أحد بات يُشبه أحداً. العلم اللبناني ليس الوحيد الذي يرفرف في سماء لبنان. وقراءة أيّ خبر تختلف بين منطقة ومنطقة في لبنان. وانتظارات اللبنانيين بين منطقة ومنطقة تختلف. في كل ذلك، اللبنانيون- وبصدقٍ- يحبون بعضهم البعض لكن، هناك من يلزمهم بألا يشبهوا بعضهم بعضاً. لكن، لا ضير أن نرى كل الصورة: ثمة مجتمعات ترى أن اللامركزية تقوي الطائفية بينما من ينظر الى الجغرافيا اللبنانية يرى أن بعض الطوائف مركزة فعلاً في مناطق. فاللامركزية في كسروان لن تغير شيئاً في المعادلة الطائفية القائمة في كسروان. من يُفكر أن اللامركزية طائفية ينطلق من فكر ايديولوجي لا إداري. وطالما نحن نحيا في ايديولوجيات فستظل السلاسل والأغلال الحديدية تعيق حركة أيدينا وأقدامنا ولن تسمح لنا المضي قدماً لا في اللامركزية الإدارية ولا حتى في بناء وطن.
ها نحن نقترب من بداية صيف 2024، ثمة مغتربون سيصلون هذا الصيف الى لبنان لكنهم لن يجرأوا على اجتياز منطقة صور. وهناك مغتربون لن يجرأوا على الإقتراب من سماء لبنان خوفاً من تحذيرات بحرب قادمة. والوضع «هيك»… مش ماشي.
لا، لبنان مش ماشي. إنه يغرق يغرق يغرق… فهل تنتظرون السقوط الأخير حتى تنعوه؟