المؤسسات السياحية تئنّ تحت نير الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة
تحوّل انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية إلى سمّ تتجرعه القطاعات الانتاجية والخدماتية مع كل اشراقة يوم جديد. فهذا المبيد النقدي الذي سرى في عروق الاقتصاد أفقد المؤسسات مناعتها، هز مقاومتها وهدد استمراريتها. أما العلاج فلقاح نادر اسمه التجاري “الدولار المدعوم”. والذي هو في الحقيقة الشكل الآخر لتثبيت سعر الصرف إنما على قيمة منخفضة تعادل 3850 ليرة لبنانية بدلاً من 1500 ليرة.
رفع ستارة الحظر الصحي الذي فرضه فيروس كورونا، أظهر معاناة في القطاع السياحي لم تكن في الحسبان. المطاعم والفنادق والملاهي مضطرة إلى شراء المواد الأساسية بسعر صرف وصل إلى 10 آلاف ليرة، قبل ان يتراجع آنياً إلى 8300 ليرة. فيما تسعيرة الخدمات والسلع النهائية بقيت عند حدود سعر الصرف الرسمي، “مضافاً اليها زيادة بين 15 و30 في المئة كحد أقصى”، بحسب عضو مجلس نقابة اصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسيري وامين الصندوق عارف سعادة. وبالرغم من هذه الزيادة فان الخسائر ما زالت كبيرة. فالفاتورة التي كانت تقرّش بـ 150 الف ليرة كانت تساوي في الماضي القريب 100 دولار، أما اليوم فهي تساوي 18 دولاراً. أي انها أقل بكثير من كلفة شراء المواد الغذائية والمشروبات التي تكلف بين 25 إلى 35 في المئة من قيمة الفاتورة.
سقوط البنيان السياحي
انعكاسات هذا الواقع المرير لن تقف عند اعتاب المؤسسات السياحية، بل ستطاول الوطن أجمع بمالية دولته العامة ومختلف قطاعاته الانتاجية والخدماتية ومعيشة افراده. فالسياحة بشكل عام أدخلت خلال السنوات العشر المنصرمة بحسب سعادة “80 مليار دولار إلى الإقتصاد، ذهب منها 30 ملياراً إلى خزينة الدولة من دون ان تتكبد أي مصاريف أو استثمارات. كما إنها توظف 160 الف عامل بشكل مباشر، وتستخدم نحو 40 الف مياوم بدوام جزئي من طلاب المدارس والجامعات، ويستفيد منها ضعف هذا العدد من موردين ومنتجين بشكل غير مباشر”. وعليه فان حصيلة التوظيف السياحي في البلد تبلغ 300 الف فرد وأسرة.
الدولار السياحي
البنية السياحية بدأت بالتداعي والسقوط على أثر زلزال الأزمة النقدية. وهي تترجم يومياً باقفالات يتوقع أن تتجاوز الـ 1500 مؤسسة قبل نهاية العام، وبصرف اكثر من 35 الف عامل وبتخفيض في الرواتب والاجور. وفي ظل غياب الدعم واقرار قوانين اعفائية مساعدة على استمرار القطاع “لم يبق لنا إلا إقرار الدولار السياحي”، يقول سعادة. والذي هو ببساطة مساعدة المؤسسات السياحية على شراء المواد الاولية ودفع بعض التكاليف على سعر المنصة الالكترونية أي 3850”. أما آلياته التطبيقية فتتمثل باعطاء المؤسسة السياحية 50 في المئة من قيمة المبيعات المسجلة في الـ TVA التي تعود للعام 2019 على سعر المنصة الإلكترونية. بشرط أن تقسم على دفعات شهرية بحسب فواتير المشتريات.
هذه الآلية التي اقترحتها نقابة أصحاب المطاعم، رفعها وزير السياحة إلى مصرف لبنان لدراستها قبل ان يقرها رسمياً مجلس الوزراء. وهي ستشكل بحسب ارباب القطاع في حال الموافقة عليها، “خشبة خلاص تساعد على تمرير هذا الموسم بأقل خسائر ممكنة”، تجنب الكثير من المؤسسات “رفاهية الإقفال” برأي سعادة. “فالمطاعم والفنادق والملاهي ومختلف المؤسسات السياحية العاجزة عن الاستمرار لا تستطيع الاقفال. ذلك ان كلفة التصفية كبيرة وهي تتطلب دفع كامل المتوجبات من اشتراكات الضمان وتعويضات الصرف والضرائب والقيمة المضافة ومستحقات الموردين والدائنين”.
نموذج عمل جديد
“التوصل إلى اتفاق حول الدولار السياحي يشكل جزءاً من الحل”، بحسب رئيس لجنة السياحة في المجلس الاقتصادي الاجتماعي وديع كنعان. “إلا ان المشكلة أكبر من استمرار آني أو مرحلي. فمعالم الازمة التي ظهرت في القطاع عام 2017 كانت تنذر بانفجار حتمي، بغض النظر عن انتشار فيروس كورونا مؤخراً، أو حتى اندلاع الثورة في نهاية العام الماضي”. المجلس الاقتصادي والاجتماعي عمل خلال السنوات الماضية على بلورة سياسة سياحية متكاملة. بنيت على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والامني والسياسي، لتكون قادرة على مواجهة التحديات وتقلبات الظروف. إلا انها ككل الطروحات لم تلق آذاناً الصاغية واجماعاً وطنياً. الأمر الذي فوّت على لبنان وقطاعه السياحي تحديداً “امكانية تخفيف آثار الازمة الحادة التي يمر بها البلد” بحسب كنعان.
الحل اليوم للأزمة السياحية يتمثل من وجهة نظر كنعان باعتماد “نموذج عمل جديد” New Business Model سواء أخذ “الدولار السياحي” طريقه إلى التنفيذ أو لم يأخذ”. هذا النموذج يخفف الاعباء التشغيلية عن كاهل صاحب المؤسسة السياحية من خلال عنصرين أساسيين الليونة وتوزيع المخاطر. فصاحب المؤسسة يتحمل منفرداً كل الاعباء والمصاريف التشغيلية من الضرائب ورواتب الموظفين والفوائد والاستحقاقات المصرفية وغيرها. وهو ما يعرضه للافلاس ومصادرة مؤسسته في حال عجزه عن الاستمرار بالدفع. “في حين ان توزيع المخاطر يسمح بدخول العمال والممولين أي المصرف شركاء مع صاحب المؤسسة”، يقول كنعان.
هذه التجربة كانت مطبقة في لبنان في حقبة الازدهار السياحي في خمسينات وستينات القرن المنصرم حيث كان العامل يتقاضى الحد الادنى ويعتمد في تكبير راتبه على النقاط (أي نسبة من المبيع) التي كانت محددة آنذاك بـ 14 نقطة وكانت تعرف هذه الآلية بـ couvert et service. وهو ما كان يسمح بوصول الاجور إلى مستويات عالية جداً في حال كان العمل جيداً، أما في حالة الجمود فان العامل لا يكلف المؤسسة أكثر من راتب بسيط. ومع الايام طمع اصحاب المؤسسات بالربح الذي كان يحققه العمال وفرضوا الراتب الثابت الذي أصبح اليوم يشكل مشكلة في ظل هذه الازمة. كذلك الامر بالنسبة إلى العلاقة مع المصارف. حيث يتحول المصرف بحسب الخطة “إلى شريك صامت في المؤسسة”، يقول كنعان. “وبدلاً من إنتظار عجز المؤسسة عن دفع الفوائد أو الاقساط لوضع اليد عليها يصبح البنك ممولاً يربح بربحها ويتحمل معها الخسارة”. هذه الطريقة من وجهة نظر كنعان هي شكل من أشكال حوكمة المؤسسات في القطاع، وباب لدخول مستثمرين جدد وأولهم المصارف”.
حوكمة القطاع السياحي واعتماد نماذج عمل جديدة قد يكونان الحل الانسب، ليس فقط لانه طويل الأمد، بل لان اقرار “الدولار السياحي”، سيفتح الباب أمام مطالبة بقية القطاعات بالدعم. أحد الخبراء يسأل: لماذا لا يكون هناك “دولار عقاري” و”دولار مدرسي” و”دولار طباعي، نسبة الى المطابع”… أو لماذا لا يخفض سعر الصرف رسمياً الى 3850 ويجري دعمه ككل؟ ليجيب بان كل القطاعات تستحق الدعم، انما السؤال الاساسي يتمحور حول القدرة على الدعم في ظل التناقص الهائل بحجم الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان.