نحو استراتيجية خليجيّة تُعيد لبنان أولوية في سُلَّم الاهتمامات
معالجة تداعيات إستقالة الحريري بين الخيارات الممكنة والأسئلة الملتبسة
الرياض تراقب بدقة إستحقاق القدرة الرسمية على صون سياسة «النأي بالنفس»
إنها لسخرية القَدَر أن يصبح خبر زيارة السفير السعودي لرئيس الحكومة سعد الحريري من الأخبار العاجلة في وسائل الإعلام اللبنانية. سخرية القدر لا تتوقف عند هذا الحد، بل تصل إلى سؤال جوهري يتم طرحه في الكواليس السياسية، سواء اللبنانية أو العربية ولا سيما الخليجية، ومفاده: هل يمكن استعادة سعد الحريري من حضن «حزب الله» ومحور إيران؟
إذا كان الجواب يأتيك على غير مستوى لبناني أو دبلوماسي عربي بأن هذا ممكن، فهو في حد ذاته يطرح سؤالاً موازياً: هل أضحى الحريري، الذي يُفترض أن يمثل خط «الاعتدال العربي»، في خدمة المشروع الإيراني في لبنان والمنطقة؟ وما دام الاقتناع الخليجي بأن استعادة الرجل ممكنة، ألا يدل ذلك على أن خياره تكتيكياً وليس استراتيجياً؟
هي أسئلة تحتوي في طيّات إجاباتها على كثير من المعطيات والوقائع والتحليلات التي فيها, هي الأخرى, قدر كبير من خيبات الأمل وحال اللاثقة المتبادلة، وهي في حد ذاتها من سخرية القدر أيضاً.
فحين دخل رفيق الحريري معترك العمل السياسي في لبنان، دخل من بوابة المملكة العربية السعودية، لا بل كان يتم التعامل معه من قبل الحلفاء والخصوم، في آن، على أنه يُجسّد «الرؤية السعودية» أو «المشروع السعودي» في لبنان، وهو اغتيل على هذه الخلفية، وورثه سعد الحريري على هذه الخلفية أيضاً. فإذا به، بعد قرابة 12 عاماً، يصبح النقاش الدائر لدى الحلفاء والخصوم عما إذا كانت احتمالات استعادته قد تنجح أم لا، وما إذا كانت هناك خطوات عملية في هذا الاتجاه.
تؤكد أوساط، على اطلاع وثيق، بأن معالجة تداعيات استقالة الحريري قد تشهد تحركاً خليجياً قريباً من دون تفاصيل، وتسلط الضوء على أهداف التحرّك المرتبطة بالصورة الأشمل التي تتناول كيفية الحفاظ على لبنان ببعده العربي، وعلى غالبية الشارع السني من أن يتحوّل جسر عبور لتنفيذ مشاريع تصبّ في نهاية المطاف بخدمة المشروع الإيراني في المنطقة، سياسياً وعقائدياً، والذي يتناقض في أبعاده مع ما تجسّده دول الاعتدال العربي، حيث مكان لبنان الطبيعي بينها، ومكان أبنائه ولا سيما السنّـة منهم.
تلك الأهداف باتت اليوم تُشكّل تحدياً للمنظومة العربية عموماً والخليجية خصوصاً، وفي مقدمها المملكة، ولا سيما في ظل اقتناع بأن خيار العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، والموافقة على قانون الانتخابات النسبي بالشكل الذي خرج به، والذي يسود اعتقاد محلي وإقليمي ودولي بأنه سيُغيّر التوازنات السياسية في لبنان، وأنه سيؤول إلى مجيء غالبية برلمانية لمصلحة «حزب الله» وحلفائه، بما يُمهّد الطريق نحو تشريع سلاح الحزب، وإدخال تعديلات على «اتفاق الطائف».
وإذا كان هناك مَن سيرمي المسؤولية على السعودية، بإدارة ظهرها للبنان الرسمي، وإدارة ظهرها لحلفائها ولإبنها سعد الحريري من خلال ترك شركة «سعودي أوجية» – «قوتها الناعمة» – إلى مصيرها المحتوم، في مقارنة مع إيران التي تضخ الأموال لذراعها السياسي والعسكري وحلفائه تحقيقاً لتمددها وسيطرتها على القرار اللبناني كجزء من مشروعها الاستراتيجي، فإن ثمة من يذهب إلى ما هو أبعد بالسؤال: لنسلم جدلاً أن السعودية مقصّرة أو أنها تخلت عن لبنان وعن حلفائها عموماً وعن السنة خصوصاً، فماذا عنهم؟ هل يتخلون عن انتمائهم وعمقهم وبعدهم السياسي والوطني والعربي؟
لم يعد سراً أن المقاربة الخليجية، ولا سيما السعودية، تتوقف في حيرة عند المطالعة السياسية التي يُقدّمها الحريري منذ التسوية الرئاسية في لبنان. مطالعة تستند إلى العجز عن المواجهة للنفاذ إلى «سياسة التسليم» بالأمر الواقع، فيما الشكوك عن «تحوّلات ما» في القناعات السياسية، وإن كان المقرّبون من الحريري في «تيار المستقبل» يرون أن المسألة لا تتعلق بالقناعات بل بالقدرات، وأن لبنان غير قادر على تحمّل تبعات ثمن مواجهة «حزب الله» فيما حل مشكلة سلاحه، بوصفه ذراعاً إيرانية، ليست مسألة داخلية.
على أن تلك المقاربة لا تعني تسليماً خليجياً بالمسار السياسي الذي سلكه الحريري منذ التسوية الأولى، والذي اتكأ على فرنسا ودعم رئيسها إيمانويل ماكرون للعودة إلى تجديدها. فالمعطيات لدى مطلعين تشير إلى أن السعودية، التي أعلنت عن فترة سماح للبنان وللحريري، تراقب بدقة، وتدرك أن هناك أمام لبنان أكثر من استحقاق. الأول، يتعلق بمدى قدرة لبنان الرسمي، والحريري تحديداً، على صون سياسة «النأي بالنفس» التي تعهّد بها، والتي يسعى «حزب الله» إلى إرسال إشارات أنه لا يلتزم بها، وآخرها كان كلام أمينه العام السيد حسن نصر الله حول السعودية واليمن. أما الاستحقاق الثاني، فيتمثل بالانتخابات النيابية المصيرية، والذي من شأنه أن ينقل لبنان بكليته إلى الفلك الإيراني، إذا لم يتم التصدي لذلك سياسياً. هذان الاستحقاقان سيشكلان الـ«بارومتر» في العلاقة بين المملكة والحريري، وعلى أساسهما يمكن تحديد مدى النجاح أو الفشل في استعادة الحريري إلى «الحضن السعودي». المعضلة أمام الحريري قد تكون في صعوبة ذهابه إلى خوض انتخابات بلوائح ضد « التيار العوني»، فيما تتحدث بعض المعلومات عن صعوبة اقتناع المملكة بجدوى أي تحالف مع عون، الذي جرى اختباره سعودياً، وأظهر مدى التصاقه بمحور حارة حريك – النظام السوري – طهران في مواجهة الرياض.
وإذ يعتبر بعض من حلفاء المملكة اللبنانيين والخليجيين أنها ابتعدت سابقاً عن وضع استراتيجية كاملة متكاملة لتعاطيها مع الملف اللبناني وحلفائها فيه، فإنهم على قناعة أنها عادت إلى الاهتمام بالملف اللبناني. وإذا كانت أزمة الحريري قد دفعتها إلى «فرملة» تحركها لبعض الوقت، فقد عادت، مع بداية السنة، إلى إدارة محركاتها الدبلوماسية.
القراءة البراغماتية يمكن تلخيصها بالآتي: احتواء الحريري هو أولوية، من زاوية «الحريرية السياسية» شكلت الزعامة الأكبر لسنّة لبنان، لكن أي إخفاق في هذا الإطار، سيؤول إلى تجاوز هذا الاتجاه، من منطلق أن الهدف الرئيسي يتعلق في نهاية الأمر بموقع لبنان مستقبلاً، كما بموقع الطائفة السنية كمكون أساسي من مكونات لبنان، من دون أوهام أن المعركة صعبة وقد تتطلب استراتيجية خلاقة على المدى القصير، وربما عملاً طويل المدى إذا لم تؤتِ تلك الاستراتيجية ثمارها!
رلى موفّق