فجأةً أصبح الرئيسان الأميركي والروسي مهتمَّين بالشأن الإنساني في سورية. لماذا كان متعذّراً في بعض الأحيان إيصال علبة حليب للأطفال أو رغيف خبز أو حبّة دواء لأي منطقة تحاصرها قوات نظام بشار الأسد وميليشيات إيران، ولماذا كان الروس يدعمون سياسات الحصار والتجويع بقصف المخابز والأسواق والمستوصفات ومحطات الكهرباء لدفع الناس إلى النزوح والتخلّي عن بيوتهم وأرزاقهم وأملاكهم، ولماذا أمّنوا الحماية والحصانة لاستخدام السلاح الكيماوي؟.. لأنهم كانوا يريدون إفراغ هذه المناطق وتلك من السكان ليستعيد النظام «السيطرة» عليها ويفتح الطرق لتمكين قوافل «التعفيش» من نهب ما خلّفه النازحون والمرحّلون وراءهم، كذلك لتمكين إيران من زرع ميليشياتها حيثما تشاء. لكن فلاديمير بوتين ودونالد ترامب وجدا فرصة لإضفاء «وجه إنساني» على لقائهما في هلسنكي، عبر التركيز على سورية. يصعب تصديق أنهما معنيان فعلاً بهذا الملف، لكنهما احتاجا إليه للإيحاء بأن للقمّة نتائج أخرى غير اتفاقهما على «العمل بشكل مشترك لتنعم إسرائيل بالأمن والسلام».
إذاً، كان بوتين يحتجز «الملف الإنساني» وترك النظام يستخدمه لابتزاز شعبه، وقد منعت موسكو منذ خريف 2011 تفعيل القانون الإنساني الدولي لمصلحة الشعب السوري الذي ركّزت تظاهراته حينذاك على طلب «الحماية» من قتلة الأسد، وبعدما تدخّلت مباشرة في خريف 2015 لم تكن لها أي مساهمة مسجّلة في تسهيل عمليات الإغاثة الدولية حتى أن طائراتها قصفت إحدى قوافلها وقتلت عدداً من العاملين فيها. في الوقت نفسه كانت لروسيا مشاركة فعلية في عمليات التهجير القسري من حلب وريفي حمص وحماة وأخيراً من الغوطة ودرعا. بل إنها انضمّت إلى النظام والإيرانيين في استعداء منقذي «الخوذ البيضاء»، إذ كانوا يرفضون وجود متطوّعين لرفع جثث القتلى ودفنها أو إجلاء المصابين لمعالجتهم. وإذ استهدفوهم بالقتل وأجبروهم على النزوح أو اختطفوا عدداً منهم لرميهم في أقبية التعذيب، فإنهم استهجنوا أخيراً خروج «الخوذ البيضاء» مع عائلاتهم من درعا إلى الأردن عبر إسرائيل. كان الروس يريدونهم أن يسلّموا أنفسهم إلى قتلة الأسد كمجرمين مستسلمين. دانت الخارجية الروسية خروج «الخوذ» من سورية «بدعم أجنبي»(!)، ووصفهم النظام بأنهم «أدوات» في أيدي الدول التي موّلت نشاطهم الإنقاذي، وكان معروفاً أنهم لم يقاتلوا وأنهم بالتأكيد منحازون إلى الشعب.
لم يخرج «الملف الإنساني» من جيب بوتين إلا بعدما تيقّن صاحبه أولاً بأن كل الجرائم ارتكبت فيه إلى حدّ أنه فقد وظيفته في «الحل العسكري» للأزمة السورية وإنْ كانت عقدة إدلب لا تزال تنتظر، وبعدما لمس ثانياً أن هذا الملف مناسبٌ لافتتاح «المساومة» مع الولايات المتحدة، ومن خلالها مع الدول الغربية. لا أحد يصدّق أن بوتين وترامب منشغلان في القمة الأولى بينهما بعودة اللاجئين والنازحين السوريين، بعدما تفرّجت الدولتان على إذلالهم وطردهم من مواطنهم، وها هما تضعانهم الآن على الطاولة للمساومة عليهم. فبالتزامن مع إعلان أن موسكو قدمت اقتراحاً لإعادة اللاجئين وأن وزيري خارجية الدولتين تواصلا للتشاور في القضية، سلّط الإعلام الروسي الضوء على «العملية الإنسانية المشتركة الأولى» مع فرنسا التي قدّمت خمسين طنّاً من المواد الطبيّة المخصّصة للغوطة الشرقية وقد شحنتها طائرة روسية إلى قاعدة حميميم. هل ستوزّع بواسطة النظام وعلى طريقته، وهل ستصل إلى مستحقّيها أم يتولّى الوسطاء بيعها لمصلحة أطراف في النظام؟ إذا استطاعت باريس أن تعرف مصير مساعداتها فسيكون ذلك إنجازاً.
الملاحظ أن وزارة الدفاع الروسية هي المكلّفة بالملف، وبمقدار ما يُفترض أن يعني ذلك جدّية وفاعلية بمقدار ما يوجب التذكير بأن الممارسات العسكرية الروسية لم توحِ بالثقة في أي مرحلة، وتجربة التفاوض و»الضمانات» في الغوطة ودرعا افتقدت المصداقية واستوحت كل خدع النظام وأكاذيبه، ذاك أنها أظهرت مجدداً أن وجود شرطة روسية لم يمنع أعمال التنكيل والنهب المنظّم، والأرجح أنه لن يشكّل ضماناً كافياً لتشجيع اللاجئين الراغبين في العودة. ما يدعم الشكوك، على سبيل المثال، أن المسؤول في الوزارة ميخائيل ميزنتسيف دخل باكراً جداً في الترويج الدعائي لخطة عمل مشتركة يدرسها الروس والأميركيون بهدف «إعادة اللاجئين إلى المناطق التي كانوا يعيشون فيها قبل 2011»، وبدل أن يؤكّد قابلية تلك المناطق لاستقبالهم بعد التدمير والنهب والأرض المحروقة فقد سارع إلى إعطاء تقديرات بأن 1,7 مليون لاجئ سيتمكّنون بإشراف مجموعة مراقبة روسية- أميركية- أردنية في عمان، ومجموعة مماثلة في لبنان الذي سيغادره 890 ألف لاجئ، وإن 300 ألف سيعودون من تركيا و200 ألف من أوروبا.
لا يدعم هذه التقديرات العشوائية سوى ما يتم في لبنان بترتيبات يتولّاها «حزب الله» مع بعض الأجهزة الأمنية، بمعزل عن الدولة والحكومة، وبضغوط تُمارس خصوصاً على الشباب لسدّ حاجة نظام الأسد إلى المجنّدين، وبغية تصوير «عودة اللاجئين» كتزكية لـ «شرعية» الأسد واعتراف بضرورة استمرار نظامه وبالتالي كامتنانٍ للحلفاء الروس والإيرانيين الذين أنقذوه. لا تقلّ الرغبة الأردنية عن الرغبة اللبنانية في التخلّص من عبء اللاجئين، أمّا الفارق ففي أن عمّان لا تتعجّل «تطفيشهم» بالأسلوب الإيراني بل تعوّل على التعاون الروسي- الأميركي، وحتى الروسي- الأوروبي، إذا قدّر له أن يفلح. غير أن الجميع يطرح التساؤلات نفسها، أولاً عن سلوك النظام الذي لم تصدر عنه أي إشارة إلى أنه تعلّم شيئاً من الأزمة سوى أن إمعانه في الوحشية كان «مجدياً» في نهاية المطاف وأن أحداً لا يطالبه بالتوقف عن القتل، وثانياً عن سلوك الإيرانيين الذين ربما يخفّفون ظاهرياً من وجودهم العسكري الذي يعتبر الروس أنه يمنع أي حل للأزمة ولم يعد ضرورياً لكن انتشار ميليشياتهم المحلية ووجودهم «المدني» باتا يستثمران في حال الفقر والضعف والإحباط التي تسود البيئة الشعبية المعارضة (سابقاً؟!)، والأهمّ ثالثاً عن سلوك الروس وما إذا كانت لديهم تصوّرات دقيقة عما يريدونه وما يستطيعونه، خصوصاً أن العقل العسكري- الإخضاعي مسيطر على مقاربتهم لمسألتي الحل السياسي وإعادة الإعمار.
هذه التساؤلات يتدارسها الأوروبيون أكثر مما تشغل الأميركيين، لكن ما يتشاركونه أنهم جميعاً لم «يبلعوا» بعد خيار التعامل مع نظام همجي امتهن الإجرام ووظّف ترسانته العسكرية في قتل شعبه وتدمير بلده والتسبّب بأكبر مأساة لجوء ونزوح، ولا يزال مصمماً على ارتكاب المزيد من الجرائم بمساعدة الإيرانيين والروس. هؤلاء الروس الذين يحاولون من خلال التقارب الشخصي بين بوتين وترامب رسم نهج جديد لحل الأزمة السورية، قوامه إيلاء الملف بكامله إلى روسيا والتعاون معها كخيار بديل من التعامل مع الأسد. هذا لن يمنع الأخير من إعلان «نصره النهائي» واستخدام الضمان الإسرائيلي المعلن له ولنظامه ومحاولة فرض شروط على الدول كافة للتعامل الرسمي معه ومع نظامه، لكن الروس هم الذين سيفرضون إرادتهم في الواقع، والأميركيون سيعملون معهم لفرض حلّ في سورية.
ثمة اقتناع روسي- أميركي مشترك بأن النظام والمعارضة مترافضان إلى حدّ يصعب معه بناء أي حلّ إلّا بإرادة الدولتين الكبريين، بما تعنيه من مراهنة أميركية على موسكو. فبعدما صُفّيت المعارضة العسكرية عملياً بموافقة أميركية لم تعد سرّاً على أحد، وبعدما حُصر مقاتلوها بين إدلب ومنطقة «درع الفرات» حيث يمكن تركيز الضغط عليها، حان الوقت للشروع في تطبيق «الحل البوتيني» الذي بات يتمتّع بمباركة ترامبية لا لبس فيها. فالرئيس الأميركي لم يجدّد في هلسنكي عزمه على الانسحاب من سورية قريباً، ويبدو أن نظيره الروسي هو من أقنعه بما لم يقنعه به جنرالات البنتاغون. فالحضور الأميركي مطلوب لتحقيق الحلّ المنشود، إنْ لم يكن للتثبّت من احتواء الإرهاب وإضعافه فعلى الأقل لدعم روسيا في ضبط الأتراك والإيرانيين. أي أن الوجود الأميركي ضروري في هذه المرحلة شرط أن يسهّل المهمة الروسية، وترامب لا يريد التخريب عليها أو اللعب ضدّها.