IMLebanon

السفير النعماني يكشف لـ “الديار” عبر الخرائط القديمة ملكيّة “القرنة السوداء” وجوارها 

 

 

إنّ ظاهرة النزاعات بين حدود البلدات والأقضية في لبنان قديمة وموسميّة لعدم مسح كامل الحدود. ولكنّ التقدّم التكنولوجي والعلمي، لا سيما على صعيد المواصلات والتناقلات والتصوير والترسيم، قد أضاف أبعاداً جديدة الى هذه الخلافات لم تكن حاضرة من قبل. فالوصول الى القرنة السوداء التي تعلو أكثر من 3000 م. عن سطح الأرض، كانت في القرن الماضي عملية شاقّة ومضنية، إذ انّ المناطق المباشرة حولها جرداء وخالية من السكّان، نظراً لعلوّها وطقسها البارد، رغم توافر المياه و “الثلاجات”.

 

أمّا اليوم فإنّ التكنولوجيا وشقّ الطرقات الحديثة والسيارات ذات الدفع الرباعي، قد سهّلت وصول الناس إليها رغم وعورة المكان. وبعد أن تمكّنوا من الوصول الى القرنة والحضور والاستثمار والتموضع، بدأت النزاعات والخلافات أيضاً تذر قرنها. وثمّة سؤال يطرح نفسه هنا لا سيما إثر الحادثة الأخيرة التي وقعت في القرنة السوداء، وأدّت الى مقتل شابين هما هيثم ومالك طوق من بلدة بشرّي، ولا تزال التحقيقات الأمنية جارية لكشف ملابسات هذه الجريمة المزدوجة: الى أي قضاء أو بلدة تتبع القرنة السوداء، التي هي اليوم موضع نزاع بين أهالي كلّ من بشرّي وبقاعصفرين، هل لقضاء بشرّي أو لزغرتا أو للضنيّة أو لبعلبك؟ وكيف السبيل الى إنهاء هذا الخلاف الذي يتجدّد في كلّ مرة يصعد فيها أحد سكّان البلدتين لتفقّد نباريش المياه في أعلى القرنة، تلافياً لوقوع المزيد من الضحايا؟!

 

يرى السفير الدكتور بسّام النعماني المتابع لقضايا الحدود البحرية والبريّة للبنان، أنّ الكثيرين يلجؤون اليوم الى الخرائط القديمة، من أجل إثبات الحقوق العائدة لكلّ طرف يتنازع مع طرفِ آخر على ملكية أرض أو عقار أو موقع حدودي بين طرفين أو أكثر. وبالنسبة للقرنة السوداء، هناك شبه اتفاق بأنّ معظم الخرائط، تُظهر أنّ الأراضي شرق القرنة السوداء تابعة لقضاء الضنيّة العقارية. أمّا قمّة جبل القرنة السوداء، فتضعها الخرائط اللبنانية والفرنسية ضمن قضاء بعلبك (خريطتان مرافقتان). ولكنّ المشكلة لا تكمن هنا فقط، بل إنّ الخلافات تتمدّد الى مالكي العقارات. فقد يكون سكّان بشرّي يتملّكون ويستثمرون في المنطقة شبه الجرداء حول القرنة السوداء بنسبة أعلى من سائر سكّان البلدات المحيطة بها، وعددهم أكثر بكثير من سكّان بقاعصفرين. كما أنّ ثمّة مناطق مشاع ومنابع، أو مصادر مياه، تديرها عادة مجالس البلديات. ولهذا تتعقّد المسألة أكثر، لتتجاوز حدود كلّ قضاء وتتمدّد الى تحديد الأملاك العقارية، وإدارة مصادر المياه. كما أنّ إعلان المنطقة عسكرية تارة، ومحمية طبيعية تارة أخرى، يُفاقم الأمور ويزيد عدد اللاعبين والمتدخّلين من خارج المنطقة.

 

ومن الإعتبارات التي يجب أخذها في الحسبان، على ما يضيف النعماني، هي أنّ راسمي الخرائط والمساحة لم يخطر على بالهم أنّ القرنة السوداء ستكون محلّ نزاع بين بلدتي بشرّي وبقاعصفرين، على سبيل المثال. فمعظم الخرائطيين اللبنانيين أو الفرنسيين كانوا ضبّاطاً مهندسين في الجيش، وكان شاغلهم الأساسي: الاستراتيجية والأمن والتثليث، ومنها تحديد الإحداثيات الدقيقة من أجل إطلاق قذائف المدفعية. أمّا تحديد الحدود بين البلدات والقرى، فكان أمراً متدنيّاً في سلّم أولويات هؤلاء الضبّاط وقياداتهم. فعندما كان يتدخّل القضاء اللبناني لحلّ مشاكل تحديد أو تثبيت الحدود بين القرى والبلدات في أواسط القرن الماضي، فإنّ القضاة العقاريين كانوا يقومون برسم الخرائط باليد، ويرسمون عليها أهمّ الإحداثيات والمعالم الجغرافية. وكانوا يستعينون بالطبع بخرائط الجيش اللبناني التي تستند هي الأخرى الى خرائط الجيش الفرنسي.

 

وهذه الخرائط، على ما أوضح السفير النعماني، بمعظمها بمقياس 1:50،000 ومفصّلة إلى حدّ ما في رسم حدود الأقضية، ولكنها لم تكن تهدف إلى رسم الحدود بين القرى والبلدات، إلا إذا كانت هذه الحدود العقارية على تماس مع الحدود الدولية (مع فلسطين وسوريا). عندئذ كان ضبّاط المساحة في الجيش يولون رسم هذه حدود هذه البلديات أهمية خاصة. وهنالك خرائط لبعض المناطق اللبنانية أكثر دقة بمقياس 1:20،000 و1:25،000، و1:10،000، قام الفرنسيون برسمها لأغراض عسكرية، ويصعب الحصول على نسخ منها بيسر. ولكن تلك الخرائط، حتى إذا تمّ اكتشافها، فهي لم تهتم كثيراً برسم الحدود العقارية بين البلدات. ولكن القضاة العقاريين اللبنانيين كانوا يعيدون رسم هذه الخرائط باليد عند إصدارهم للقرارات العقارية، حتى ولو كانوا يستعينون بمهندسي مساحة. والخريطة “اليدوية” تظل أقلّ دقة من الخريطة المرسومة بواسطة الأدوات الهندسية الحديثة.

 

وفي هذا السياق، يشرح النعماني أنّه يجب الإدراك بأنّ رسم الخرائط هي عملية شاقّة ومكلفة وتحتاج إلى جهود جماعية. فمعظم الخرائط العسكرية اللبنانية والسورية باللغة العربية والتي تمّ رسمها في ستينات القرن الماضي لا سيما تلك على مقياس 1:50،000، كانت تشير صراحة في متنها بأنها تستند إلى الخرائط الفرنسية. وهي مشغولة بالألوان والتضاريس والأحجام نفسها. وكل ما فعله الضباط أنهم استبدلوا الأحرف الأجنبية بالأحرف العربية. وعلى أي حال، فإنّ الخرائطيين القدامى كانوا يراكمون خبراتهم بعضها فوق بعض. فالخرائط العثمانية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت على قدر كبير من التقنية والدقة. وكان العثمانيون لمدة قرون متتالية يولون تحديث الجيش وتطويره أهمية كبيرة جدّاً، لوقف تدهور وإنهيار الدولة أمام هجمات الدول الأوروبية. وليس واضحاً إذا كان ضباط الهندسة الخرائطيون العثمانيون قد تتلمذوا في باريس أو برلين أو في معاهدهم العسكرية في إسطنبول، ولكنّ خرائطهم تم الاستناد إليها من قبل ضباط المساحة البريطانيين والفرنسيين لرسم خرائط سوريا ولبنان وفلسطين والأردن أثناء فترة الانتداب. ولكن يبدو أنّ العثمانيين قد تعاونوا بشكل خاص مع الفرنسيين في رسم خرائط ولايتي بيروت والشام ولا سيما حدود متصرفية بيروت.

 

ويستنتج السفير النعماني بأنّه نظراً لأنّ الخرائط الحديثة التي تستند الى التصوير الجوّي بواسطة الأقمار الصناعية، قد أخذت بالحلول محل الخرائط القديمة الورقية، فإنّه يمكن استخلاص الأمور الآتية في ما يتعلّق بالخلاف بين قضاءَي بشرّي وبلدة بقاعصفرين في قضاء الضنيّة:

 

1-إنّ الخرائط، القديمة والجديدة، وحدها لا يمكنها تحديد الحدود بين بشرّي وبقاعصفرين، لأنّها ليست دقيقة بما فيه الكفاية.

 

2- إنّ هذه الحدود تتغيّر عبر الأزمنة والعصور والأنظمة، ولهذا يجب مقاربة الأمر بتعقّل ودراسة معمّقة، للوصول الى أفضل حلّ مرجو في هذا الوقت.

 

3- إنّ رمي المسؤولية على الدولة بأنّها المسؤولة عن تفاقم الوضع ليس أميناً بما فيه الكفاية، لأنّ دولاً أكثر سطوة وقوّة من الدولة اللبنانية مثل فرنسا والدولة العثمانية (أو حتى بريطانيا التي رسمت الكثير من الخرائط الدقيقة لسوريا ولبنان)، لم تقم بالدور الذي يُمليه عليها بتحديد الحدود العقارية بين البلدات والقرى اللبنانية.

 

4- الموازنة بين المصلحة الوطنية العليا في المحافظة على مصادر المياه الجوفية والينابيع وحسن استغلالها، وبين مساعي المواطنين للاستثمار واستعمال الأراضي والمياه لبناء العقارات أو للرعي والريّ، وذلك حقناً للدماء والأرواح.