مع اشتعال الأسعار… الغضب يستعر وحذار من توريط الجيش ضد الجياع
في القرن التاسع عشر، كانت كلمة «تاجر» تعني «برجوازي» وكانت تُعطى لفئة من المجتمع مُثقّفة وتملك المال وتعمل في مجال التجارة. وكانت هذه الفئة مُحترمة من قبل المُجتمع لدرجة أنها كانت تُعدّ من النخبة وكانت تشغل مناصب سياسية نظرًا إلى قدرتها على إدارة الشأن العام.
في المجتمع النيوليبرالي الحديث، البرجوازية عبارة عن إنسحاب الفردانية لتجنب المخاطر وتسهيل الحياة وذلك من خلال إظهار النفس على أنها متوازنة ومرتاحة في محيطها الاجتماعي عبر الإختباء وراء وهم الفكر الذي يؤخذ على أنه رابط اجتماعي. في المقابل يُدرك الفرد غير – البرجوازي النظام وبالتالي هو قادر على التعامل معه إمّا بالاستفادة منه أو من خلال تجنبه.
في لبنان وفي عصرنا الحديث اليوم، وبعد ما يزيد عن قرن ونيف، أصبحت كلمة «تاجر» في اللغة العامية اللبنانية تُعتبر إهانة للشخص. هذا الأمر هو نتاج أداء بعض التجار الكبار على مر العقود الماضية، ويعكس ممارسات لا تتطابق والمصلحة العامة والمُحيط الإجتماعي.
فعلى مدى أكثر من عقدين، إستفاد هؤلاء في لبنان من الإستيراد بشكل كبير حققوا من خلاله أرباحًا طائلة عبر إستيراد السلع والبضائع من دولارات أمّنتها المصارف اللبنانية من أموال المودعين بالدرجة الأولى. وبالتالي كانت السلع والبضائع تُباع مع هامش ربح كبير وذلك من خلال التلاعب بالتصاريح الجمركية – كما لا يخفى على كل اللبنانيين- عن القيمة الفعلية لهذه السلع والبضائع. وبحساب بسيط لإيرادات الدولة من المرفأ والضريبة على القيمة المُضافة على السلع والبضائع نعلم يقيناً أن حجم التهرّب الضريبي كان هائلا.
وقد أخذنا عيّنة من تصريح الجمارك اللبنانية والجمارك الإيطالية لحجم التبادل (إستيراد وتصدير) على فترة 20 يومًا، وتبيّن أن التصدير من لبنان إلى إيطاليا يتطابق، في حين أن حجم الإستيراد من إيطاليًا المُصرّح به في لبنان أقلّ بـ 5.8 مليون دولار أميركي مما تمّ التصريح به في إيطاليا!
ولقد إستفاد التجّار أيضًا من الرسوم الجمركية المُتدنيّة على السلع المستوردة من الإتحاد الأوروبي (خصوصًا بعد أذار 2105 – تاريخ دخول المعاهدة حيّز التنفيذ الكامل) ومن الدول العربية. أكثر من ذلك، كان بعض المُهرّبين يقومون بتغيير بلد المنشأ لبعض السلع والبضائع لكي يتمّ تفادي دفع رسوم جمركية كما كان يحصل مع «الفراريج» المُجمّدة المُستوردة من البرازيل.
وفي إطار آخر، أخذ التجّار أولاً بتطبيق مبدأ الـ «replacement cost» وهو التسعير على سعر الدولار الحالي بدل التسعير على سعر الشراء، وهذا الأمر مُخالف للمرسوم الإشتراعي 73/83 الذي ينصّ على تحديد 100% نسبة الربح الأقصى، ومن ثم صاروا يطبقون ما هو أبعد من ذلك، فأدخلوا الـ Speculation في مفهوم التسعير بحيث صاروا يأخذون هامشاً إضافياً على سعر صرف دولار أميركي بزيادة 2000 إلى 3000 ليرة زيادة عن السوق السوداء كما صرّح أحد السياسيين نقلا عن مدير عام وزارة الاقتصاد والتجارة.
ويُمارس العديد من التجار كما بات معروفاً لدى المسؤولين الإحتكار بكل أنواعه على مثال أحد السوبرماركات في منطقة كسروان الذي صرّح أحد الموظفين فيه أن صالة العرض كانت فارغة في حين أن مخازن السوبرماركت كان مليئة بالمواد المدعومة.
وقد تناقلت أيضًا وسائل التواصل الاجتماعي صوراً وفيديوهات لمواد مدعومة من قبل الدولة اللبنانية تُباع في السويد وتركيا وأستراليا وغانا والكويت وسوريا وقبرص! وعلى هذا الصعيد صرّح أحد النواب في حديث تلفزيوني أن البضائع تنتقل مباشرة من مكان الشراء إلى مكان البيع من دون المرور في لبنان.
ممارسات التجار لم تنته هنا، فقد كشف وزير الصحة خلال جولة على أحد المستودعات أن الفارق بين سعر الشراء وسعر المبيع هائل (4 إلى 104 دولار أميركي) وهو ما يُمكن تخبئته من خلال القبض نقدًا من الزبائن مما يعفي التاجر من التصريح لوزارة المال عن حجم الأعمال الفعلي. وهذا الأمر بحدّ ذاته هو دافع جوهري لوجود السوق السوداء! فكيف يُعقل أن الدولار متوافر على المنصة الرسمية على سعر 12000 ليرة في حين أن التجار يذهبون لشرائه في السوق السوداء على سعر 17 ألف ليرة؟ الهدف الأساسي هو التهريب (إذ لا رقابة ولا ملاحقة على السوق السوداء) أو التهربّ من كشف حجم الأعمال الحقيقي خشية فتح عيون مراقبي وزارة المال. عمليًا التهريب هو وسيلة سهلة للمهرب لكي يُخرج دولاراته من لبنان بسعر صرف 1500 ليرة لبنانية أو سعر الـ 3900 ليرة. وهو أمر مارسه ويُمارسه المُهربون تحت أعين الدولة من دون حسيب أو رقيب.
كل هذا في ظلّ تفلّت واضح في تسعير السلع والبضائع خصوصًا الغذائية منها حيث إرتفعت الأسعار ما بين 30 و40% بمجرد ارتفاع سعر صفيحة البنزين! هل من مبررّ لهذا الإرتفاع؟
على كل الأحوال، هناك تفلّت واضح في الأسعار إذ أصبح يُشكّل عائقاً أساسياً أمام المواطن اللبناني للحصول على حاجاته الأساسية. وما حصل في طرابلس البارحة هو نموذج عما ينتظر لبنان إذا لم يتمّ لجم الأسعار ومنع الإحتكار وملاحقة المهرّبين. وبإتباع منطق المستفيدين من تجار ومُهرّبين، هناك ما يُقارب الـ 10 مليار دولار أميركي في المنازل يجب الإستفادة منها من خلال رفع الأسعار إلى مستويات تفرض على المواطن إستخدام مُدّخراته، بمعنى آخر ما تم تحريره من الفساد هو معرض بقوة لبراثن فساد وجشع التجار المحتكرين.
وهنا يحقّ للمراقب السؤال عن العلاقة التي تربط التجّار والمهربين بالتطبيقات التي تُعطي أسعار الدولار في السوق السوداء نظرًا إلى أنهم يحققون أرباحًا بمجرّد ارتفاع السعر في السوق السوداء؟ هذا الأمر هو برسم السلطات الرسمية «المغشي عليها» التي يتوجّب عليها وقف هذه التطبيقات عبر طلب خدمات شركة خاصة – فكلفة هذه الشركة تبقى أقل بكثير من الخسائر التي يتكبدّها المواطن أولاً والدولة آخراً.
عمليًا، هناك عملية نقل للثروات من المواطنين إلى فئة مُحدّدة من المجتمع (فاسدو التجار والمهربون…) وهو ما يزيد الفقر في المجتمع اللبناني. هذا الأمر إلى جانب كونه منافياً للأخلاق الإنسانية عامة وللشرائع السماوية خاصة، فهو مُناف للنظرية الإقتصادية التي تفرض توزيع عادل للثروات لما في ذلك من مكافحة للفقر ورفع للناتج المحلّي الإجمالي.