لم أعد أستمع لما يقوله الأمين العام لـ»حزب الله» منذ زمن طويل، وأتجنّب حتى متابعة تقلّبات حركات وجهه وهو يتصنّع الإنفعال حيناً ومن ثمّ يرسم تلك الإبتسامة الهازئة والمستكبرة، التي يعلن من خلالها أنه العالم بكلّ شيء وحامل الأسرار وصاحب الهمّة في الأفعال.
ولكنّني بحكم المسؤولية أتابع ملخّص ما يقوله في صحف اليوم التالي، على أساس أن لا شيء جديداً، فالإتهامات أصبحت معروفة ومكرّرة والتهديدات والوعود والروحانيات التي تتشابك في الحديث، تأتي كلها بملخصها لخدمة قضية واحدة، ووجوه الصف الأول هي هي، وعلامات الإعجاب على الوجوه هي هي، والهتافات والتبريكات من الصفوف الخلفية هي هي.
في خطابه الأخير، صودف عدم وجود برنامج آخر يهمّني على الشاشة، فتركت القناة مسمّرة عليه أستمع إلى كلام شيّق لمَّح له في السابق، وأتى اليوم باتهامات مباشرة للسعودية ولعرب آخرين بالسعي إلى التطبيع مع إسرائيل.
لن يتمكن الأمين العام لـ»حزب الله» هنا من استدراجي إلى دفاع مطلق عن السعودية على أساس أنّ شيعياً يتهم سنّة، فليس كلّ ما يفعله أو يقوله أتباع السنّة والجماعة صحيح بالمطلق، ومن البديهي أنّ بعضاً ممّا يقوله أو يفعله أتباع التشيّع صحيح، والعكس أيضاً ممكن.
ولكنّ الواقع هو أنّ أبناء جيلي الذين عاشوا لزمن طويل على حلم العودة إلى فلسطين واقتنعوا بأنّ الصبر على ظلم الحكام «الوطنيين» هو مفتاح التحرير، وأنّ انسحاق كرامتنا أمام المخبر الوطني هو الطريق لاستعادة الكرامة من العدوّ الصهيوني.
وكنا كما يفعل اليوم نصر الله نكيل الشتائم والإتهامات «للرجعية العربية المتمثلة بحكام الخليج»، وبالطبع كانت المملكة العربية السعودية على رأس القائمة، مع العلم أنّ تمويلَ المعركة من سلاح وعتاد، ودعم «الصمود القومي»، من مشاريع وطرقات ومساعدات إنسانية وغيرها، كانت تأتي من دول الخليج، ومن السعودية بالذات.
ومَن هم مِن جيلي يذكرون حفلات الإبتزاز على منابر الزعماء المناضلين عندما كانوا يهجون الرجعية في يوم، ويدعون للتضامن العربي في اليوم التالي بعدما يحصلون على مرادهم…
ما لنا ولكلّ ذلك الآن، فقد مرَّ زمن طويل، وفهم معظم جيلنا أنّ طريق هزيمة فكرة إسرائيل هي بالتأكيد غير الذي سلكه متسلّطو السلطات الوطنية منذ النكبة إلى الآن، وفهموا أنّ الخطاب الشعبوي لا يخدم إلّا منطق العدوّ في شعبويته هو نفسه، وأنه في كلّ يوم نهتف فيه بالموت لأمريكا والموت لإسرائيل، فإنّ النتيجة كانت دائماً رجع الصدى لملايين الحناجر الهاتفة بحياة القائد على شاكله «لبيك يا فلان». في المقابل فإنّ صلابة وقوة وتطرّف إسرائيل كانت تزداد مع كلّ خطاب حماسي من جماعتنا، ومعها يتراجع التفهّم والتعاطف مع شعبنا.
أما اليوم، فقد أتت أجيال عدة من العرب لم تعش ذلّ النكبة ولا مرارة النكسة ولا رمزية القدس إلّا من بعض وسائل إعلام تبث بعض برامج عن كلّ هذا بشكل عاطفي أشبه بفيلم هندي من أيام البكائيات. وبطبيعة الحال فإنّ معظم أبنائنا كانوا يقلبون المحطات على قضية «أكثر قرباً من رغبات الجيل»، وبصراحة فإنّ القضية بقيت حتى عند الكثير من الفلسطينيين اليوم، حكاية مفتاح صدئ احتفظت به الجدة لبيت تركته عام ١٩٤٨.
ولكن ما لم يذكره نصر الله في خطابه هو دور المنظومة التي ينتمي إليها في تضييع فلسطين قولاً وفعلاً، على الرغم من الصواريخ المنصوبة والنتعات والتهديدات التي يطلقها كتحصيلٍ حاصل ضد العدوّ في كلّ خطاب من خطاباته الكثيرة.
في مجال تفتيت المنطقة إلى كيانات مذهبية، فقد نجحت منظومة ولاية الفقيه في وضع دول عربية عدة على هذه السكة، من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن، وتسعى إلى ضمّ البحرين والكويت إلى القائمة. وهذا كما سمعنا منذ أجيال بأنه حلم الصهيونية.
لقد تمكّن مشروع ولاية الفقيه المذهبي من استثارة كمٍّ هائلٍ من التعصّب المذهبي جعل بوصلة العداء ترتكز على المذهب والطائفة الأخرى كأولويّة مباشرة بما أنّ الحرب والخطر المحدق قائم، في حين تحوّلت إسرائيل إلى «أصل البلاء» في أحسن الأحوال، متواطئة مع «العدوّ الفارسي» من جهة، ومع «العدوّ التكفيري» من جهة أخرى.
في الأساطير المؤسسة للمهدوية، فإنّ المتداوَل في الكثير من الأدبيات الشائعة، هو أولويّة «استعادة مكة» قبل المعركة النهائية التي يقودها المهدي، وهذا بحدِّ ذاته أصبح نوعاً من الهاجس الذي يجعل العدوَّ الأوّل للسعودي، على الأقل، وللسنّة بالإجمال، حاملي راية المهدوية ومشروع ولاية الفقيه، والفرس خصوصاً، والشيعة عموماً، وإن لطفت هذه القضية أحياناً بتحييد بعض الشيعة أو نصحهم بأنهم أدوات «المشروع الفارسي».
لا أعلم اليوم ماذا يدور في فكر قادة المملكة العربية السعودية، ومن الواضح أنّ الهاجس الوجودي الأول ليس إسرائيل، بل هي الحرب الدائرة في اليمن والبحرين والعراق وسوريا ولبنان، وهي بكلّ موضوعية حرباً وجودية تخوضها إيران بأدوات مذهبية مسلّحة بحقد أعمى مصدره أسطورة مستمَدة من الماضي السحيق.
ونصر الله هو أداة تنفيذية في هذا المشروع، فهو عملياً ينفّذ، وإن لم يرغب، كلّ ما نفع العدوّ الإسرائيلي. فهو يساهم في تفتيت المنطقة أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ويدعم آخر ما تبقى من حكام سقطوا من وجدان شعوبهم أمثال بشار الأسد والمالكي وصالح، وساهموا في حماية وجود إسرائيل بخطاباتهم العبقرية.
والأهمّ هو أنّه تحوّل في وجدان معظم العرب ليصبح أكثر خطورة عليهم من «موشيه دايان» و«أرييل شارون» و«بيبي نتانياهو»، وأصبحت ذكرى مؤسس دولة ولاية الفقيه أكثر تنفيراً من ذكرى «ديفيد بن غوريون» مؤسس دولة إسرائيل.
أنا أعلم بأنه سيأتي مَن يقول عن يوم القدس وطرد السفير الإسرائيلي من طهران، ولكن أين يُصرف كلّ ذلك الآن؟ ومَن يحدّثنا الآن عن خطورة التطبيع.