جلس قادة الحوار اللبناني الى الطاولة الضخمة المستديرة المخصصة لاستيعاب الكمّ الهائل لخلافاتهم، وهم يدركون سلفاً أنّ لغم تفجير هذه المائدة في جيبهم بالذات. لا داعي اذاً لتحميل المعترضين خلف الأسوار الضخمة والأسلاك الشائكة مسؤولية الفشل، المنتظر وقوعه.
فشباب الحراك المدني الذين رشقوا أصحاب السيارات ذات الزجاج الداكن بالبيض، لا يملكون إلا صوت الاعتراض لاستخدامه، ومهما علا هذا الصوت فليس بمقدوره أن يغيّر شيئاً ما دام الممسكون برقاب الناس لا يكترثون كثيراً لغضبهم ولا يهتمون لمنسوب «القرف» الذي أصابهم وأخرجهم من منازلهم.
عملياً، تأتي الخشية من دخول جلسات الحوار في دوامة الملل والشلل من تضارب الأجندات التي وضعت على الطاولة قبل بدء الكلام والغوص في التفاصيل. صحيح أنّ «أستاذ الحوار» أعطى الأولوية لرئاسة الجمهورية، غير أنّ الجالسين من حوله لهم أولوياتهم المختلفة.
صار واضحاً أنّ «تيار المستقبل» وحلفاءه يصبون اهتمامهم نحو كرسي بعبدا. بكلام أوضح، يحصرونه بهذه المسألة من دون غيرها. بالنسبة لهم، من هناك تبدأ الأزمة وهناك تنتهي. وبالتالي لا مجال للنقاش حول أي نقطة أخرى قبل إخراج فخامة الشغور عن الكرسي المخملي، ومن بعدها يمكن البحث في المسائل الأخرى.. ولكن هذا الاحتمال ليس مؤكداً.
أما الجنرال ميشال عون فقد قلب سلّم أولوياته. صارت الغلبة لقانون الانتخابات، ومن بعدها الرئاسة. لاعتبارات كثيرة قرر الرجل أن يعطي الأولوية للاستحقاق النيابي، ولكن بعد إقرار قانون جديد للانتخابات يصحح التمثيل المسيحي، ولو بالحد الأدنى للأمور، على اعتبار أنّ المبالغة في الطموح والتخطيط ستواجه بحائط مسدود، كما حصل مع اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي» الذي خذله أحد صناعه قبل الآخرين.
هكذا، سيحصل التضارب عاجلاً أم عاجلاً، وسيقع الخلاف بين أهل الحوار حول أفضلية المرور: هل هي للرئاسة أم لقانون الانتخابات؟
وما يزيد من احتمالات التصادم هي الصعوبة التي يواجهها «تيار المستقبل» في السير بمشروع تعديل قانون الانتخابات، ليصير أكثر قبولاً من المسيحيين وأكثر إنصافاً بحقهم، حيث يقول أحد العارفين إنّ الحريريين قد يقبلون بانتخاب رئيس محسوب على خصومهم، لكن يصعب عليهم منح بصمتهم لقانون انتخاب جديد، لا سيما أنّهم متأكدون من أنّ ما يمنحه إياهم «قانون الستين» من مقاعد مجانية، لن يُتاح لهم مع أي قانون آخر.
وفي الخلاصة، فإنّ أي تغيير في جوهر القانون، سواء كان في تقسيم الدوائر أو في النظام المعتمد، سيكون على حساب «الكوتا الزرقاء»، وبالتالي إضعاف الوجود الحريري في التركيبة البرلمانية هي نتيجة حتمية لأي مسّ بقانون الانتخابات. ولهذا يجاهد هذا الفريق بكل ما أوتي من قوة كي يحافظ على «قدسية» القانون الحالي، ويصوب كل خطابه باتجاه الرئاسة الأولى فيحمّل الشغور عبء الأزمة القائمة، ويودعها مفتاح الحل، كي يتجنّب كأس النيابة المرّة.
وقد يكون سمير جعجع أكثر العارفين بهذه الممانعة، ومدى تأثير كسرها على «تيار المستقبل»، بعدما اختبرها خلال فترة التفاوض تحت سقف بكركي ومن ثم انضمامه الى المشروع المختلط الذي تقدمت به «القوات» مع «المستقبل» و «الاشتراكي»، حفاظاً على ماء الوجه أمام الرأي العام المسيحي، وهم يعرفون سلفاً أنّ الاقتراح لن يمرّ كونه مرفوضا من القوى الشيعية قبل غيرها.
بناء عليه، يحاذر جعجع في تواصله مع «التيار الوطني الحر» بحثاً عن مشروع مشترك لقانون الانتخابات، تسجيل خطوات سريعة أو متسرعة من شأنها أن تخربط كل مساره. هو يسير الى جنب الحائط كي يبقى «مع سيدي بخير.. ومع ستي بخير»، ما دام زمن الضبابية قائما والرؤية في الخارج صعبة. فهو لا يريد التفريط بحلفه مع «تيار المستقبل»، أقله في المدى المنظور، ويسعى في الوقت عينه الى خرق الطوق الذي يمسكه «الزرق» حول رقبته بفعل قانون «الستين»، ويعمل على فكّ هذا الحظر من خلال تعديل القانون بالتضامن والتكافل مع العونيين.
عملياً، تبقى النسبية هي المساحة المشتركة القادرة على جذب الكل الى جنتها، بمعزل عن شكل الدوائر أو حجمها. وبالتالي إنّ الانطلاق في البحث بين الرابية ومعراب من مبدأ اعتماد النسبية، قد يسهل هذا المشروع، كون الفريقين قد التقيا من دون أن يتفقا، في هذه البقعة.
فـ «تكتل التغيير والإصلاح» سبق له أن ذيل توقيعه على مشروع حكومة نجيب ميقاتي القائم على أساس 13 دائرة انتخابية وفق النسبية، فيما «القوات» سجلت تأييدها على الاقتراح المشترك الجامع بين النسبي والأكثري. يعني أنّ احتمال التفاهم ليس مستحيلاً.
ويبدو أنّ «القوات» تميل الى المزاوجة بين المبدأين، أسوة بالاقتراح الذي شاركت في تقديمه، كونها ترى أنّ اعتماد النسبية بالمطلق من شأنه أن يسهل وصول الصوت المتطرف الى البرلمان، لا بل يصبّ الزيت على نار المزايدة المذهبية، وهذا ما لا يريده أي من القوى القائمة. وبالتالي إنّ الجمع بين النسبي والأكثري هو الأكثر قبولاً، أو لديه أرجحية القبول، غير المحسومة طبعاً.
هكذا، لا يزال التفاهم بين «التيار» و «القوات» في بداياته، ولم يتخط حتى الآن مبدأين يريدانهما من قانون الانتخابات: تحسين التمثيل المسيحي، وتحديد طبيعة الشريك الآخر بما يضمن عدم وصول الصوت المتشدد.. أما البقية فأمامها درب طويل قد لا تنتهي.