IMLebanon

مأساة «السنديانة الحمراء»

إنتهت يوم الأحد الفائت أعمال انتخابات قيادة الحزب الشيوعي اللبناني ضمن مؤتمره العام الحادي عشر. رفع «جيل جديد نسبياً» من قيادييه، وعلى رأسهم النقابي حنا غريب، إشارات النصر، فيما خالد حداده تنحّى جانباً. لحظة هزيمته نكأت ذكريات عن لحظة فوزه قبل نحو ثماني سنوات بلقب الامين العام للمرة الأولى للحزب الشيوعي، حينها أغشي عليه من الفرح، ولم يستعد وعيه إلّا بعدما سكب مشاركون في ذاك المؤتمر الماء على وجهه.

الواقع أنّ الصورة التي أظهرت آنذاك حدادة مغشيّاً عليه، كانت ترمز لأكثر من حالة انفعال غامرة اجتاحته؛ لقد أشرّت الى حزب يعاني فعلاً «حالة سبات تنظيمي وسياسي وإيديولوجي»، أعقبت مرحلة طويلة من حيويته اللافتة التي استمرت منذ مطالع القرن السابق وبلغت أوجها خلال الحرب الأهلية اللبنانية وكانت حاضرة طوال حقبات «الحرب العالمية الباردة».

وقبل الكشف عن خفايا تتّصل بنتائج مؤتمر الحزب الشيوعي الاخير، وكلها تؤشر الى أنّ أزمته وجودية، وأبعد أثراً من أن تحلّها عملية تبديل داخل قيادته القديمة الجديدة، فإنه يجدر التوقف عند الرواية التي تقدمها بيانات أعداد المنتسبين للحزب منذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم، لكونها تروي بتجرد قصة «مآساة حزب» وحكاية ضمور ما كان يسمّى بـ»السنديانة الحمراء».

* خلال النصف الثاني من عقد سبعينات القرن الماضي (١٩٧٥- ١٩٨٠) ناهز عدد المنتسبين للحزب الشيوعي اللبناني، الثلاثين ألفاً بحسب تقدير عام، وغير موثّق، وربما هو رقم يضم منتسبين ومتفرغين وأصدقاء قريبين جداً من الحزب.

* شارك في فعاليات عيد الحزب الخمسين التي أقيمت في «عروس البحر» لأيام متتالية، نحو خمسين ألفاً من منتسبين واصدقاء… وتخلل هذه المناسبة انتساب خمسة آلاف عضو جديد للحزب.

* شهد الحزب عام ١٩٧٦خروج كتلة عدديّة ونوعية مهمة منه واتسمت بأنها مسيحية مارونية كان أشهر رموزها مسؤول الضاحية الجنوبية في الحزب روبير مشعلاني. سبب هذا الانفاق هو اعتراضها على تحالف الشيوعيين اللبنانيين مع المقاومة الفلسطينية ضد ما كان يسمّى آنذاك بـ»اليمين اللبناني» المسيحي.

* عشيّة «الطائف» كان عدد المنتسبين للحزب من حملة البطاقات الحزبية ١٥ ألفاً.

* وفي حين أنه خلال الفترة الممتدة من الحرب الأهلية حتى عشية «الطائف» انتسب للحزب ١٥ ألفاً، ولم يخرج منه سوى ٨٠٠ حزبي، فإنّ أحدث الأرقام تبين انه منذ بدء جمهورية «الطائف» حتى الآن لم يبق من الأعضاء المنتسبين للحزب الشيوعي اللبناني وحملة البطاقات الحزبية سوى ٨٠٠ عضو فقط، امّا المسجلون على الورق الرسمي للحزب فلا يتجاوز عددهم ١٣٠٠ عضو.

تَشي الأرقام الآنفة بأنّ الحزب الشيوعي تضاءل خلال اربعة عقود ليصبح حزب الألف منتسب لا غير!

ملاحظتان عن المؤتمر الاخير

أولاً – يلاحظ أنّ الانتخابات الاخيرة في الحزب جرت ارتكازاً على خطأ او خطيئة ديموقراطية، وهي إجراء تعديل المادة ٤ من قانونه الداخلي بحيث باتت تسمح بالترشّح لمواقع الحزب القيادية المنتخبة لهيئاتها العليا لأكثر من مرة.

واللافت انّ هذا التعديل استفاد منه اعضاء اللائحتين المتنافستين على قيادة الحزب. وتقدم هذه الممارسة قيادة الحزب القديمة والجديدة على انهما جزء من الطبقة السياسية اللبنانية. وتَشي بأنّ عملية تداول سلطة القيادة بداخله محتكرة بين طبقة حزبية تتناحر للوصول الى قمته التنظيمية وتحبط دخول دماء جديدة اليها.

بكلام آخر، أثبتت انتخابات الحزب الشيوعي انّ عدوى تعديل المواد الدستورية لمنع تداول السلطة في مؤسسات الدولة اللبنانية، وصلت للحزب الذي نجحت قيادته الجديدة الممددة لنفسها بإزاحة قيادته القديمة الممددة لنفسها ايضاً.

ثانياً – إنّ التغيير الذي حصل في قيادة الحزب، لم يتم على أساس حسم فوارق سياسية وإيديولوجية بين القيادتين القديمة والجديدة. فالقيادتان تنتميان لحالة «الجمود الفكري» المسؤولة عن عدم قدرة الحزب على تجديد نفسه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الشيوعي.

واللافت أنّ غريب قياساً لحدادة يعتبر أكثر شمولية وتشدداً عقائدياً. بكلام آخر إنّ غريب ليس رجل مرحلة تدوير الزوايا الفكرية والتنظيمية، علماً انّ هذه المواهب هي ما يحتاجها الحزب فيما لو أريد له الخروج من أزمته الوجودية الراهنة.

جوهر الازمة الراهنة أنه ليس واضحاً الى أيّ خيار سياسي وعقائدي جديد ستأخذ القيادة الجديدة الحزب؛ لأنّ المبارزة الانتخابية لم تجر على أساس حسم الفوارق العقائدية بين اتجاهات موجودة فيه، بل جَرت كلها على أساس المكاسرة بين كتلتين تنظيميتين فيه، وحولهما كتل ضبابية.

فالى جانب كتلتي حنا غريب وخالد حدادة توجد كتلة ثالثة يقودها سعد الله مزرعاني الموجود رسمياً خارج الحزب، بينما أجواؤه موجودة داخله. الهمس داخل الحزب يشير الى تحالف تحت الطاولة نشأ بين مزرعاني وغريب ضد حدادة، خلفيّاته ليست عقائدية بل تصفية حسابات تنظيمية.

يقود مزرعاني داخل الحزب الشيوعي خياراً ينادي بتصحيحه من الخارج. يقول الشيوعيون المناهضون له انه يسير بمشروع لإنشاء حالة يسارية جديدة منسّقة مع عزمي بشارة الذي يعمل على مشروع تجميع حزب اليساريين العرب ليكون بديلاً عن فشل حالة «الاخوان المسلمين» العرب.

أمّا حنا غريب فينتمي داخل الحزب الشيوعي الى حال الانكماش العقائدي، وتجربته النقابية كما خاضها خلال الاعوام الاخيرة، تقدمه على أنه شخصية ليست بارعة في تدوير الزوايا السياسية والعقائدية وانه ليس من المؤمنين بالتمَرحل المطلبي ومبدأ «خذ وطالب»، علماً أنّ الحزب بأمسّ الحاجة لمِثل هذه الميزات في شخصية أمين عامه الجديد لإخراجه من ضموره الراهن تنظيمياً وجموده الايديولوجي توصّلاً لتجاوز أزمة احتضاره المستمرة منذ ثلاثة عقود.

لفترة طويلة ظلّ غريب محسوباً على ماري الدبس نائبة حدادة وزوجة القيادي التاريخي في الحزب الشيوعي المرحوم خليل الدبس والمتزعمة للجناح الايديولوجي (الماركسي) المتشدد داخل الحزب. وحتى هذه اللحظة فإنّ غريب يعتبر ايديولوجياً متشدداً، في مقابل انّ حدادة كان يمثّل نقطة التقاء بين كلّ اجنحة الحزب الأيديولوجية، ويتجه أكثر فأكثر لأن يكون برغماتياً.

انّ حداده ميّال للالتقاء مع ليبراليي الحراك المدني «طلعت ريحتكم» على حساب «بدنا نحاسب» اليسارية. لكنّ متشددي «جناح الدبس» وغيرها عارضوه بشده واتهموه بأنه ذو نزعات ليبرالية. وحاول حدادة تجاوز محاصريه داخل الحزب عن طريق إنشاء علاقات مع احزاب شيوعية عربية وذلك في إطار مسعى لتشكيل إطار تنسيقي يجمع جميع اليساريين العرب. ويؤدي داخل هذا المسعى يساريّو تونس (الجبهة الشعبية) دوراً رائداً.

وفي كواليسه الخاصة طالما عبّر «الأب الروحي لحركة بدنا نحاسب» نجاح واكيم عن تظلّماته من أنّ حدادة يشكوه، كلما اختلف معه في تقويمه لخيارات الحراك المدني، للشيوعيين التونسيين من أجل الضغط عليه.

خلاصة القول إنّ الحزب الشيوعي اللبناني هو «طبخة بحص» وبقايا تشتت اتجاهات تنظيمية، ولم يصل بعد الى مرحلة صياغة خطة تجعله قادراً على التكيّف مع نتائج الزلزال الايديولوجي الذي شهده العالم بفِعل انهيار الاتحاد السوفياتي.

إثر ذاك الزلزال بدا الحزب اكثر وعياً لمكان مشكلته، حيث تمّ عام ١٩٩٣ طرح فكرة تغيير اسمه من الحزب الشيوعي الى حزب الشعب، وذلك على نحو ما قامت به الكثير من الاحزاب الشيوعية العربية، لكنّ أنصار البقاء عند اللحظة الايديولوجية الماضية المنهارة عارضوا ذلك بدعوى انّ الحزب سيخسر تاريخه ومعه إنجازاته إن غيّر إسمه! ثم لاحقاً عرضت فكرة ان يصبح الحزب جزءاً من مشروع يساري عام في لبنان.

ايضاً رُفضت الفكرة، واليوم ينتج الحزب قيادة جديدة، ولكنها عملياً قيادة للمراوحة داخل حال الجمود الفكري وعدم إنتاج إرادة للتكيّف مع عالم تجاوز الشيوعية كنظرية للتغيير وذلك نحو ليبرالية يسارية منفتحة.