يندفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكثر فأكثر في قراراته المتهوّرة. فأن تكونَ الولايات المتحدة الأميركية أوّلَ دولة تُعلن اعترافَها بالقدس عاصمةً لإسرائيل منذ إعلان تأسيسها عام 1948، ليست بمسألة عابرة أو عاديّة.
صحيحٌ أنّ عملية نقلِ السفارة قد تستغرق أعواماً عدة، لكنّ واشنطن أقرّت المبدأ، وهو الأساس. ولكن قبل اتخاذ ترامب قراره، حصلت نقاشات حامية داخل أروقة الإدارة الأميركية فاقمت الخلافات المستعرّة أصلاً بين رجالها وفريق البيت الابيض اللصيق بترامب.
هذه الخلافات التي تَضع المتاريس السياسية بين الرئيس الأميركي ورجال إدارته والتي أصبحت علانية بسبب عمقها وحدّتها، وهو ما يحصل للمرة الاولى منذ زمن بعيد جداً.
ترامب الذي بقيَ مصرّاً على قراره، متذرّعاً بالحفاظ على وعده الانتخابي، واجَهه الفريق المعارض والمتمثّل خصوصاً بوزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر بأنّ هذه الخطوة ستؤدّي الى تعقيدات كبيرة أمام الوصول الى تسوية سلمية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، والأهمّ أنّها ستعطي دفعاً وزخماً لرافضي مبدأ الصلح مع اسرائيل، وستعطي الذريعة لرفع درجة الحماوة في المنطقة، ما سيضع المصالح الاميركية في خطر.
ووفق رأي فريق الأمن القومي الاميركي، فإنّ هذه الخطة سيكون لها عواقب أمنية وخيمة وستعيد فتح بابِ استهداف الأميركيّين بدءاً من القدس نفسها وصولاً الى كلّ ساحات الشرق الاوسط، وستساعد روسيا في فتح أبوابِ عواصم الشرق الاوسط أمامها.
أمّا فريق وزارة الخارجية، فاعتبر أنّ نقل السفارة لا قيمة عملية وفعلية له بالنسبة الى التمثيل الديبلوماسي بين البلدين، لكنّه سيؤدي الى تبعاتٍ على مستوى النزاع العربي – الاسرائيلي، وسيَدفع حركة «حماس» إلى التفلّتِ من خطة احتوائها، وبالتالي احتمال تجديد الانتفاصة في القدس والضفّة الغربية، في مقابل إضعاف السلطة الفلسطينية.
ووفق مصادر ديبلوماسية اميركية، فإنّ فريق وزارة الخارجية يعتبر أنّ المكسب الوحيد من هذه الخطة في هذه المرحلة، سيكون شخصياً لمصلحة ترامب وليس أبداً للعلاقات والمصالح الأميركية.
في المقابل، بدا فريق البيت الابيض متمسّكاً بإنجاز الخطوة الآن استناداً الى الصورة التي تسود المنطقة. وحسب هذا الفريق، فإنّ تأجيل قرار نقلِ السفارة لم يساعد سابقاً في الوصول الى اتفاق تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ما يؤكّد عدم خطأ نقلِها الآن.
ووفق هذا الفريق ايضاً، فإنّه صحيح أنّ ردود الفعل الغاضبة ستبدأ بالظهور وستسود المواقفَ الرسمية لمختلف الدول، لكنّها ستبقى في إطار الكلمات الغاضبة، ومن دون أيّ ترجمة فعلية لا على المستوى السياسي ولا العملي.
وحسب تقويم الفريق نفسه، فإنّ اوّلَ المحتجّين والمعترضين سيكون الفلسطينيون من خلال السلطة الفلسطينية والمجموعات الأخرى، لكنّ الفلسطينيّين يتّكلون بمقدار كبير على المساعدات الأميركية لكي يتمكّنوا من الاستمرار، ورغم ذلك تبقى ظروفهم الحياتية صعبة جداً. فكيف إذاً مع وقف هذه المساعدات!
وثاني هؤلاء المعترضين هم الدول العربية التي تعيش كلٌّ منها في ظروف خاصة وصعبة جداً، وتحوط بها التحديات من كلّ صوب، ما يجعلها في حاجة ماسّة الى المساعدة والحماية الاميركية.
وثالث المعترضين ستكون إيران والقوى التي تشكّل امتداداً لها، لكنّ إيران ستخشى أو ستُحاذر الذهابَ بعيداً خشية انسحابِ الولايات المتحدة الاميركية من الاتفاق النووي وسط الانتقادات السلبية التي وجّهها ترامب للاتفاق.
ورابع المعترضين ستكون تركيا، لكنّها تبدو غارقةً في مشكلاتها مع الاكراد ومصالحها في سوريا، وهي لن تغامر بعودة واشنطن عن قرارها بتسليح الأكراد، وستكتفي بمواقف خالية من أيّ ترجمة.
أمّا آخِر هذه الأطراف المعترضة فهي روسيا التي تفتّش عن توسيع دائرة نفوذها في الشرق الاوسط على حساب النفوذ الاميركي، وعن تثبيت الموقع الكبير الذي كسبَته حتى الآن. لذلك فإنّ روسيا تُدرك أنّ إسرائيل هي شريك اقليمي كبير أهمّ وأفضل بكثير من الفلسطينيين.
ويقدّم هذا الفريق مثالاً على ذلك أنّ وزير الدفاع الاميركي جيمس ماتيس الذي كان قد اختار القاهرة محطةً أولى في جولته الأخيرة، نجَح في إعادة تصويب العلاقة الاميركية – المصرية التي شهدت تراجعاً بعد قرار فتحِ الأجواء بين القاهرة وموسكو بسبب حادث العريش، مشيراً الى أنّ احد اسباب انزعاج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هو حجبُ واشنطن نحو 300 مليون دولار من المساعدات المخصّصة لمصر.
لكنّ الأوساط الديبلوماسية رأت أنّ قرار ترامب مرتبط فعلياً بعاملين أساسيَّين:
العامل الاوّل، وهو تلمُّسه صعوبةَ إمرارِ التسوية السلمية بين الاسرائيليين والفلسطينيين، على الأقل وفق التوازنات الحالية، كون الصيغة الأخيرة للتسوية ارتكزَت على النقاط الآتية:
1 – دولة فلسطينية غير متّصلة وتقوم في الضفّة الغربية وقطاع غزّة.
2 – الإبقاء على معظم المستوطنات الاسرائيلية والتي أُنشئت داخل الضفّة الغربية، وبمعنى آخر سقوط حدود الـ 67.
3 – عدم حصول الفلسطينيين على موقع لهم في القدس الشرقية، وبالتالي إزالة فكرة تخصيص القدس الشرقية لتكون عاصمة لِما تسمّى الدولة الفلسطينية.
4 – إسقاط مبدأ عودة فلسطينيّي الشتات الى فلسطين والدعوة لتوطينهم في اماكن وجودهم.
وبالتالي، فإنّ الاتفاق على هذا الحلّ لا يزال يحتاج الى بعض الترتيبات الصعبة المسبَقة، وأبرزها إسقاط فكرة استعادة الفلسطينيين للقدس الشرقية.
أمّا العامل الثاني، وهو الاهمّ، فهو يتعلق بالوضع الداخلي الذي بات يُخيف ترامب ويُهدّد جدّياً بقاءَه في البيت الابيض.
فمع اعترافِ المستشار السابق للأمن القومي الجنرال مايكل فلين بالكذب، وبالتالي سقوط أحدِ أهمّ خطوط الدفاع امام ترامب نفسِه، بدا أنّ المحقّق الخاص روبرت مولر اصبَح داخل مكتب الرئيس الاميركي.
ولأنّ المعركة أضحت داخل مكتبه، طلبَ ترامب من صهره تركَ واشنطن، وبالتالي مسؤولياته الرسمية والانتقال الى نيويورك لمتابعة مشاريعه وأعماله الخاصة.
ولم تتوقف الامور عند هذا الحدّ، ذلك أنّ تسريبَ خبر طلبِ مولر من مصرف «دوتشيه بنك» الألماني تقديمَ سجلّات حسابات ترامب المصرفية، يعني أنّ وضعَ ترامب الدفاعي كارثي وأنّ هالة الرئيس وهيبتَه سقطت وأضحت موضعَ تشكيك الجميع.
صحيح أنّ ترامب نفى عِلمه بهذا الطلب، لكنّ تسلسلَ الاحداث أثبَت أنّ التسريبات المشابهة والتي تمّ تكذيبها سابقاً كانت تعود لتصبحَ حقيقة بعد فترة وجيزة.
ومع هذا الواقع الصعب الذي بدأ يَخنقه وجَد ترامب نفسَه ساعياً الى استمالة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الاميركية لمساندته والتخفيف من العبء الداخلي والخطر الذي يتهدَّد رئاسته. واللوبي اليهودي معروف أنه صاحبُ تأثير كبير وقوي في وسائل الإعلام الاميركية التي ناصَبها ترامب العداءَ منذ حملاته الانتخابية واستهزَأ بها، فبادلَته العداء ولا تزال ووضعَته في موقع سيّئ شعبياً.
ومع هذا الثمن المرتفع والمصحوب بمجازفة سياسية أميركية، يأمل ترامب في ردّ الجميل ومساندته في معركته الصعبة قدر الإمكان. لكنّ كثيرين من المراقبين يشكّكون في فعالية أيّ خطوة إنقاذية لترامب، أولاً، لأنّ اليهود الاميركيين في معظمهم هم من الديموقراطيّين لا الجمهوريّين.
وثانياً، لأنّ المعركة التي يقاتل فيها ترامب وحيداً تقريباً باتت قضائية وخرَجت عن نطاقها السياسي والاعلامي حيث التأثير الكبير للّوبي اليهودي، وفي ظلّ العداوات الكثيرة التي خَلقها ترامب لنفسه في صفوف المؤسسات الاميركية على اختلافها.
في اختصار، الشرق الاوسط أمام تعقيدات كبيرة ومخاطر كثيرة، وظروف تُشبه جزئياً وفي بعض جوانبها مرحلة زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات لإسرائيل: فلننظر إلى ما حصَل بعدها.