IMLebanon

الترانسفير السوري الوهمي… ومشروع دولة الفدراليات

لا وجود اليوم لدولة سوريّة ولا وجود لنزاع عسكري واحد فيها، فخريطة المعارك ترسم لنا جملةَ نزاعات عسكرية، وكلّ نزاع منها يأخذ طابعَ المناطقية نتيجةَ التداخلات القومية والطائفية المتعدّدة في سوريا. وفكرةُ تحقيق ترانسفير بشَري كما يفَكّر بعض المتطرّفين لخلقِ كيانات مُوَحّدة الهوية الطائفية أو القومية، غير واردة ميدانياً على رغم الدفع الإعلامي الديني والقومي بشكلٍ كبير لها في الآونة الأخيرة.

خير تأكيد على ذلك، إستمرار وجود القرى الشيعية في ريف حلب، على رغم أنّها مُطوّقة بكتَل عسكرية منوّعة الهوية والإنتماء، واستمرار وجود القرى الدرزية في ريف إدلب على رغم حدوث مجزرة راحَ ضحيتها الشهرَ الماضي 21 درزيّاً، وابتعاد ثوّار جبهات حوران عن مطار مجاور للسويداء، نتيجة جملةِ ضغوط دولية وإقليمية تراعي واقعَ الأقلّية الدرزية الخائفة في الجنوب،

واستمرار وجود القرى الأشورية في سهلِ الخابور على رغم هجمات الدولة الإسلامية المتكررة نحوَها، واستمرار وجود البلدات المسيحية في القلمون على رغم حادثة اختطاف راهبات معلولا التي تاجَر بها كِلا الطرفين المسلّحين، واستمرار الوجود العربي العشائري في مناطق ذات غالبية كُردية والعكس صحيح، واستمرار الوجود المسيحي في ريف إدلب على رغم أنّها منطقة تابعة إداريّاً لتنظيم «القاعدة» فرع الجولاني،

واستمرار وجود أبناء عشيرة الشعيطات في ريف دير الزور على رغم كمّ المجازر البربرية التي ارتكبَتها في حقّهم «داعش»، واستمرار وجود أقارب المقاتلين السُنّة في مدن الساحل السوري التي تشهَد أكبرَ تمركزٍ لميليشيات النظام السوري الطائفية، واستمرار وجود القرى الإسماعيلية على رغمِ أنّها محاذية لمقاتلي «الدولة الإسلامية».

السبب الرئيس في استمرار وجود الجميع في سوريا حتى اليوم، هو أنّ قِسماً كبيراً من السوريين لا يستوعب فكرة الترانسفير، كما أنّ القسمَ الأكبر منهم معتادون على ثقافة التنوّع الإجتماعي، وعند حدوث أيّ اجتياح من أحد الأطراف لمنطقةٍ معادية له نرى مجزرةً هنا أو هناك، ولكن يقابلها حماية مِن الفريق المقاتل السوري للغالبية المدنية الرافض لتصرّفات الفئات المتطرّفة غير السورية.

فِعلياً الشعب السوري ليس شعباً متطرّفاً، بل هو شعب يَندفع نحو مصالحة، ودائماً المصلحة تبَرّر له وقوفَه مع الطرف الأقوى، وأكبر تأكيد على هذا الأمر غياب تسجيل أيّ التحاق لسوري مقيم في أوروبا أو أميركا بتنظيم الدولة الإسلامية، أو النصرة، في حين نرَى مئات المسلمين من هويات غير سورية قد أصبَحوا على الأرض السورية!..

واللافت للنظر، أنّ آلافَ السوريين المسلمين والعلويَين والمسيحيين قد غامروا بأرواحِهم للوصول إلى القارّة العجوز بطرق غير شرعية، والهدف ليس الحصول على الأمان كما يَدّعون، بل الحصول على حياة جديدة تُحترَم فيها حقوق الإنسان لهم ولأولادهم مستقبلاً.

الشعوب المهاجرة لا يمكن أن تكون متطرّفة، بل هي شعوب منفعية الهوى، ودائماً تسعى نحو الأفضل، لذا من يَصف السوريين اليوم بأنّهم متطرّفون هو جاهلٌ بعِلم الإجتماع ومفرداته.

فأيّ فئة محاصرة في سوريا أيّاً كانت هويتها الدينية أو الطائفية، تجد لها منفَذاً يحميها من الطوائف الأخرى، كمثال عند هجوم النظام على قرى مدينة الحفة عام 2011 ذات الغالبية السنّية، نزحَ قسم كبير من أهاليها نحو مدينة اللاذقية وتعرَّض بعضهم للإهانات من بعض زعران الطائفة العَلوية، ولكنّ أسَراً سنّية نامت في قرية عين التينة العلوية، وعشرات الأسَر السنّية تمّت حمايتُها في القرى المرشدية في ريف الساحل السوري، أيضاً عندما طوّق النظام مدينة جسر الشغور عام 2011 ذات الغالبية السنّية نزحَ المدنيون منها نحو القرى المسيحية وسكنَ قسمٌ كبير منهم في الأديرة والكنائس وفتحَ المسيحيون لهم منازلهم.

طبعاً أنا لا أوَصِّف الواقع بحالة ورديّة، فهناك انتهاكات وتميّز إجتماعي وطائفي وقومي، ولكنّ هذا التميّز قادم من قادة النزاع العسكري المشبَعين بثقافة الكراهية نتيجة حمّامات الدم، التي انتشرَت في سوريا بسبب تعَنّت الحاكم بكرسيّه، واعتماده نظرية إمّا أنا أو الطوفان.

نعَم اليوم سوريا تعيش حال الطوفان، وهذا الطوفان لا يمكن أن يخبوَ إلّا بانهيار مسبّباته، فطالما هذه المسبّبات قائمة على رأس عملِها فإنّها تشَرّع استمرار ثقافة الثأر التي تؤجّج النزاع المسلّح.

أمّا مشاريع الترانسفير المتعددة التي يتمّ الترويج لها إعلامياً، فهي مستحيلة التحقّق في سوريا، لأنّ المجتمع الإقليمي غير قادر على احتمال تبعاتِها وتكاليفها.

فلا يمكن للأكراد السوريين أن يستقلّوا طالما الكورد العراقيون لم يبادروا بهذا الأمر أوّلاً!.. ولا يمكن للدروز السوريين أن يستقلّوا في جبل العرب من دون امتداد جغرافي يخدمهم، فهم متاخِمون لعشائر حوران المرتبطة بعشائر الأردن!!!…

ولا يمكن للعلويين أن يستقلّوا بعد أن احتضَن الساحل أكثرَ مِن ثلاثة ملايين نازح سنّي من الداخل السوري، ويضاف لهم نصف سكّان الساحل الأساسيين «السنّة والمسيحيين»!!!…

من هنا قد نتوقّع أن تؤسّس جملة المعارك الحاليّة ومخارجها الإجتماعية الى مشروع دولة فدراليات سوريّة تَحكم بإدارات ذاتية تلغي مركزية الدولة السورية المستقبلية، وإدارات الفدراليات هذه يجب أن تشملَ جميع نسب المكوّنات المناطقية العشائرية والدينية والقومية، وأيّ خَللِِ في هذه النسَب سيكون له تبعاته على استقرار هذه الإدارات، ولا تستغربوا أن نرى مستقبلاً إدارات مستقلّة إسلامية وأخرى علمانية في دولة الفدرالية السورية المقبلة.