ماذا كان الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله ينتظر عندما هدّد محازبيه بأنه سيتخذ «إجراءات تنظيمية» في حقهم إذا واصلوا إطلاق الرصاص في الهواء خلال المناسبات الحزبية؟ هل كان يفترض باللبنانيين أن يشكلوا وفوداً لشكره على محاولته منع رجاله من قتلهم وهم يسيرون في شوارع بيروت وضواحيها أو يقفون على شرفات منازلهم، أم أن يرفعوا لافتات ترحيب بالاستفاقة المتأخرة على أبسط الواجبات وأقل الذنوب؟ فاللبنانيون يتساءلون أساساً عن أسباب استمرار وجود كل هذه الغابة من السلاح والمسلحين طالما ان المعركة مع اسرائيل انتهت منذ عقد.
فبعد حرب 2006 المفتعلة، كرّس الحزب نفسه قوة داخلية مسلحة خارجة عن الاتفاقات المعقودة بين اللبنانيين لنزع سلاح القوى غير الحكومية وتعزيز الدولة ومؤسساتها، وبدأ يقترب تدريجاً من مواصفات قوى النظام اللبناني التقليدية الموسومة بالفساد بكل انواعه، وغاص في تحالفات محلية ادخلته في دهاليز لا يتقن العبور فيها بحكم ضعف تجربته.
وكان نجح في سنواته الأولى في رسم صورة مختلفة لنفسه عبر ضبط سلوك عناصره، وعملت ماكينة دعائية جيدة التمويل والتدريب على الترويج لهذا «الاختلاف» داخل لبنان وخارجه، مستندة الى مقارنة بممارسات ميليشيات محلية وبعض الفصائل الفلسطينية، علما ان راعيها جميعاً ومحركها كان هو نفسه، أي نظام حافظ الأسد.
وساعده في هذه المهمة تركيز الإعلامين الإقليمي والدولي على مواجهاته مع الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، ما أوجد حوله هالة من التقدير. لكن بعد انسحاب اسرائيل في العام ألفين، وتمسك الحزب بدفع من دمشق وطهران بأن المعركة معها لن تنتهي قبل «تحرير فلسطين»، بدا انه يدخل في مواجهة مفتوحة مع معظم اللبنانيين الذين ظنوا انهم ارتاحوا اخيراً من عناء الحروب.
واضطرته هذه المواجهة، في إطار شدّ عصب أعضائه ومقاتليه ومناصريه، الى استخدام تعابير في توصيفهم وتصنيفهم توحي بنوع من «التفوق» على من عداهم من مواطنيهم، وتلعب على مشاعر طائفية ومذهبية، حتى لو ألبسها لبوس الشعارات السياسية، مثل الممانعة والمقاومة ومقارعة الصهيونية. وأدى ذلك الى شعور عام بأن جمهور الحزب فوق المحاسبة لأنه «أشرف» و «أطهر» من عداه.
ولم تلبث ان اأطاحت سمعتَه سلسلةُ فضائح ظهرت الى العلن عن تورط قياديين فيه، مباشرة او عبر عائلاتهم، في قضايا فساد شملت احياناً تبييض الأموال وتهريب المخدرات. وهذا لا يشمل الاختراقات الأمنية التي كشف هو بعضها، وبيّنت تورط بعض كوادره في العمالة لإسرائيل.
وأظهرت العقوبات الأميركية المصرفية الأخيرة على مسؤولين في «حزب الله» انهم لا يختلفون عن معظم السياسيين اللبنانيين الملتجئين الى طوائفهم لحماية مفاسدهم، وأنهم يمتلكون حسابات مالية شخصية كبيرة غير مبررة ولا تعكس الانصراف الذي يدعونه الى «النشاط المقاوم»، ولا تتماشى مع الدعاية التي يبثونها عن نزاهة انفسهم وحزبهم.
ويأتي تحذير نصرالله الجديد لمسلحي الحزب بعد مناشدات عديدة سابقة، ما يعني اعترافاً بمشكلة يواجهها في ضبطهم عبر التوجيهات الداخلية وحدها، ويفضح ركاكة في البنية التنظيمية التي تحوّلت الى ما يشبه تجمعاً عشائرياً اساسه الانتماء الطائفي الفضفاض وليس الأفكار السياسية والعقائدية، وخصوصاً بعد تدخل الحزب المباشر في سورية وحاجته الى تجنيد اكبر عدد من المقاتلين.
لكن ما تعنيه ظاهرة التفلت ان الحزب يحصد ما زرعه بنفسه عندما ارتضى استخدام المذهبية وسيلة للتعبئة، دافعاً عناصره ومحازبيه الى التعامل بفوقية واعتداد حتى داخل بيئته، وإلى اعتبار بقية اللبنانيين «أعداء» أو «مشتبهاً فيهم»، وهو ما يجعله مجرد ميليشيا أخرى مثل تلك التي تكاثرت في لبنان خلال حربه الأهلية ومارست فوقيتها على المدنيين.
وإطلاق النار العشوائي ليس سوى مظهر جانبي لاستباحة بلد بأكمله، والتهديد الدائم باستخدام القوة لفرض وجهة نظر الحزب ومصالحه، ونتيجة للتورط في قتال الشعب السوري الى جانب حكم مستبد. ومن لا يخجل من جرائم بهذا الحجم يكون اطلاق الرصاص في المناسبات أقل ذنوبه.