أمّا وقد أصبحت الجمهورية من دون رأس، بلا رئيس للدولة، وبسلطة تنفيذية من مندوبين، كلما عرض أمر على مجلس الوزراء يخرج الوزير ليهاتف منتدبه ويسأله ما سيقوله، والسلطة التشريعية صارت مجلساً غب الطلب لا يجتمع للتشريع ولا يلتئم لانتخاب رئيس للدولة بل للتصويت فقط على اعتمادات خارج الموازنة وبخاصة لتمديد فراغ الدولة بتمديد ولايته.
بين كل أصحاب السلطات لم يبق إلا صاحب السلطة في مجلس النواب قال له عش رجباً فعاش رجباً سنة ونصف السنة، واليوم قال له عش عجباً فعاش عجباً لسنتين وسبعة أشهر.
ولكن ما يترك بصيص أمل في بقاء الجمهورية ولو بقصر رئاسي فارغ في بعبدا وسرايا ومندوبين يتحركون بالخطوط الخليوية، ونشاط مجلس نيابي متزايد بسحب تعويضات ومخصصات النواب السابقين وأحفاد الأسبقين.
وإذا كان من باب للفرج يمكن ان نلجه وحل نبتغيه يمكن أن نلتمسه لملء الفراغ، فلا بدّ من أن يأتي عن طريق الرئيس برّي، رجل الدولة الوحيد الباقي في هذه الجمهورية، وهو ما أن ارتاح من التمديد لمجلس أراد تأنيبه لأنه في التمديدة الأولى له لم يصنع شيئاً، شد العزم بعد التمديدة الثانية ودعا اللجنة المكلفة وضع ودراسة قانون جديد للانتخابات إلى الاجتماع، وبذلك يستعيد المجلس النيابي كامل نشاطه ومبرر التمديد له. أما لماذا لم تجتمع هذه اللجنة منذ تأسيسها ولماذا لم تقم بعملها، وهل ستتمكن الآن مما عجزت عنه بالأمس، ومنذ سنوات، فهذا شأن آخر.
والوقت؟
ما قيمة الوقت؟
وحدها بلاغة الرئيس برّي تحدد قيمة الوقت: قال: «الوقت لا قيمة له في اوطاننا نستهلكه، ونصرفه كما نصرف اعمارنا ونحن معلقون على حبال الضجر والإحباط والشك… الوقت الذي قتلناه في كل مناسبة ومن دون مناسبة عن سابق إصرار وتصميم، فاذا انتهينا من الغفلة نكون قد جعلنا الوطن العظيم حقلاً للوهم بأن لبنان، هذا اللبنان، هو كل العبارات الكبيرة الزلقة الخاوية، ويكون الوطن قد زادت فيه نسبة البطالة ومن يقعون تحت خط الفقر، وتكون ساعات تقنين خدمات الحكومة من كهرباء وماء قد زادت وزادت معها الرسوم والضريبة المضافة، وتكون السياحة قد تراجعت إلا تلك المتصلة بالتفرّج على نظامنا المتخفي، الذي أعدنا بموجبه قانون الانتخاب ستين سنة إلى الوراء… ويكون الوطن قد اصبح دكاناً مترامي الأطراف لبيع وشراء الذمم وسوبر ماركت لبيع المواقف. فيما تتسارع الاحداث من حولنا امتداداً إلى كل عمقنا العربي والإسلامي الإقليمي، حيث لن يسلم أي نمط من أنماط السلطة حتى تلك التي تفترض انها خارج الاستهداف…».
وقال دولته: «انني ادعو كل القوى، وأولها التي امثلها، أن تعي أن حجم الأزمة أصغر من حجم الصراع على الأزمة وأدعوها للخروج من اصطفافات آذار إلى رحاب الوطن وإلى إنشاء جبهة وطنية ينصب جهدها على مؤسسة العبور إلى الدولة وعلى تقديم التنازلات لمشروع الدولة. وختم قائلاً إن بقاء لبنان أصبح يعتمد بصورة رئيسية على إثبات واقتناع اللبنانيين بأنه يمثل ضرورة لبنانية».
ما حذر منه بالأمس وصلنا إلى أسوأ منه اليوم، والآتي أعظم.
ليت ما قاله الرئيس برّي في جامعة الكسليك قبل ثلاثة عشرة سنة يقوله اليوم للنواب، وقد جمعهم في جلسة وطنية، لا هدف لها إلا العبور من ضياع الوقت إلى بناء الدولة بملء الفراغ الرئاسي، واعتماد اللامركزية الإدارية مع قانون انتخابي عادل نهائي حددت أطره وثيقة الوفاق الوطني.