سلكت المنطقة دربَ البحث عن صِيَغ جديدة أو بديلة للدول التي تشلّع ساحاتها الصراعات العنيفة، وذلك لإنتاج خريطة جيوسياسية جديدة تؤمّن مصالح القوى المؤثرة في الشرق الاوسط على نار الحروب الدائرة.
في منتصف شهر أيار، قمة اميركية – خليجية تأتي بعد قرار مجلس الامن حول اليمن، وهو ما منح السعودية ورقة اساسية تمكّنها من التوازن مع الإوراق الميدانية التي نجحت ايران في التقاطها على الساحة اليمنية.
بالتأكيد لا احد يتوهّم بأنّ الصورة النهائية ستُظهّر في هذه القمة، لكن ومن دون أدنى شك ستشكل بداية مسار طويل وشائك ومتعرّج للوصول الى تفاهمات على الخريطة الجديدة. لكنّ الهجوم الايراني في اتجاه السعودية استمرّ على رغم القرار الصادر عن مجلس الامن، وقد أدرجه البعض في سياق رفع السقف في موازاة الصراع داخل الولايات المتحدة الاميركية بين الإدارة والكونغرس على الاتفاق النووي مع ايران.
ويعتقد هؤلاء أنّ المرحلة الامنية الفاصلة عن توقيع الاتفاق النهائي أواخر حزيران المقبل تسمح لايران بالمناورة، فيما يذهب البعض الآخر أبعد ليربط السلوك الايراني الجديد بالمسار المستقبلي للمنطقة. لكنّ هذا الفريق لا يجاري ايران في اسلوبها كونه سيؤدي الى عكس غايتها لجهة تَوَحُّد البيت السعودي في مواجهتها نظراً للتعبئة القصوى بين السنّة والشيعة في المنطقة.
وتأكيداً على ذلك، يشير هؤلاء الى السياسة الاعلامية التي تتولّاها وسائل اعلامية عربية محسوبة على السعودية، حيث تبثّ المواقف الايرانية مقاطع خطابية للسيد حسن نصرالله ليقينها بأنّ ذلك سيثير الشارع لصالح السعودية بسبب العداء الكبير لإيران.
وفي الخطاب الاخير لنصرالله، هجوم عنيف وللمرة الثالثة على التوالي في مدة زمنية قصيرة نسبياً تجاه السعودية وبحضور لا بأس به من اليمنيين، ما يعني وجود توجّه لتثبيت ركائز سياسة كاملة تحمل أهدافاً واضحة ولو اخذت وقتاً للوصول اليها. وقد أشار نصرالله لذلك حين نصح أخصامه بألّا يستعجلوا و«يطوّلوا بالهم قليلاً».
لكنّ الخطاب الاهم لنصرالله كان قبل ذلك وتحديداً حين تحدث عن «عجن» المنطقة. يومها أوحى بأنّ العمل جارٍ لاعادة انتاج واقع جيو سياسي جديد في المنطقة وأنّ «حزب الله» يريد المشاركة في المشروع الكبير ليضمَن حصته ويُحقّق اهدافه، او بمعنى اوضح هو يقول إنّه يريد ضمان مقعد على الطاولة حيث تجرى صناعة المنطقة مجدّداً. وهو بذلك كان يعطي البعد الحقيقي لقتال «حزب الله» في سوريا ووجود خبراء له في العراق واليمن.
يروي التاريخ أنّ اتفاق سايكس – بيكو لاقتسام الارث العثماني في الشرق الاوسط بين باريس ولندن ورسم الحدود وفق مصالحهما، إنما حصل عام 1916. لكنّ هذا الاتفاق لم تبدأ ملامحه بالظهور إلّا بعد أعوام وتحديداً بعد معركة ميسلون التي تلاها الاعلان عن لبنان الكبير، ما يعني أنّ بوادر «عجن» المنطقة قد تكون سبقتها تفاهمات ما في مكان ما.
فقرار مجلس الامن في شأن اليمن والذي أُعلن تحت الفصل السابع يشكل مدخلاً ممتازاً لمفاوضات كبيرة حول مستقبل اليمن، ومنها مستقبل سوريا، ولم لا مستقبل لبنان.
الفارق أنّ معمودية الدم لا تزال مستمرة في سوريا وفي بداياتها في اليمن. أما بالنسبة إلى لبنان فهو أنجز معمودية الدم خلال الحرب وما ينقصه هو بعض «الروتوش» ربما قبل تركيب القالب السياسي الجديد.
بعد الخروج السوري عام 2005، بدا واضحاً للجميع استحالة الاستمرار في صيغة الحكم والتي عرفت بالجمهورية الثانية لصعوبة وجود وريث للدور السوري الذي كان قائماً.
وفي العام 2007 وإثر الفراغ الرئاسي بعد خروج العماد اميل لحود من قصر بعبداـ تبرّعت باريس بالدعوة إلى مؤتمرٍ ضمّ ممثلين عن كلّ القوى اللبنانية، بما فيها «حزب الله» في سان كلو للتباحث في وضع لبنان.
لكنّ الحقيقة أنّ فرنسا التي كانت قد شكلت خلية مهمّتها درس كلّّ المشاريع التي كانت قد طرحت خلال الحرب في شأن صورة لبنان المستقبل، إنّما أرادت من مؤتمر سان كلو البدء بالبحث الجدي في صورة لبنان الجديد. لكن بدا أنّ المشاركين اللبنانيين لم يكونوا جاهزين لذلك فيما بدت فرنسا محرَجَة من المبادرة في طرح ذلك.
لذلك حصل اتفاق الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان الذي لم يفهم الدور المطلوب منه وخرج من قصر بعبدا كطامح لأن يكون لديه دور سياسي ليس اكثر.
أما اليوم، فقد باتت المسألة اكثر نضجاً. الازمة السياسية الناتجة عن الفراغ الرئاسي تبدو مريبة. هناك مَن يريد الذهاب أبعد من خلال الفراغ والاهم أنّ ثمة اتفاقات كبرى قد حصلت خارجياً.
الاوساط الديبلوماسية تعتقد أنّ «حزب الله» لم يعد في وارد تسهيل الاستحقاق الرئاسي كونه يريد الدفع في اتجاه المؤتمر التأسيسي وتطبيق المداورة بين الرئاسات وكلّ وظائف الفئة الاولى بلا استثناء.
لكنّ هذه الاوساط، وإن كانت توافق على أنّ المرحلة هي مرحلة انتقالية لتأسيس نظام سياسي جديد في لبنان، فإنها تعتقد أنها تحتاج لوقت طويل قد يمتد سنوات قبل ظهور الصيغة الجديدة، ما يعني الزامية انتخاب رئيس جديد للجمهورية يحمل صفات الخبرة السياسية والقدرة على احتضان الجميع. أي رئيس يناسب المرحلة الانتقالية ولا يكون رئيس حكم فعلياً وفق صلاحيات كاملة. أي رئيس توافقي وليس رئيساً قوياً وفق المصطلحات المتداوَل بها.
وترى هذه الاوساط أنّ التداول في الرئاسات ووظائف الفئة الاولى قابل للحصول شرط تطبيق اللامركزية الموسّعة بكلّ اشكالها، كما هو حاصل في العراق وسوريا وغداً اليمن، خصوصاً أنّ الواقع اللبناني اصبح جاهزاً لذلك، ولا ينقصه سوى التشريعات المطلوبة.