منذ اليوم الأوّل لظهور الإعلام، وجدَ الصحافيون أنفسَهم أمام مسؤولياتهم المهنية وتحَدّيات صياغة مضمون المادة الإعلامية.
حدَّد Théophraste Renaudot أوّلُ مَن أصدرَ دوريّة في فرنسا هذه المسؤولية بالأمانة في نقلِ الوقائع. وفي القرن الماضي وفي الأعوام الأخيرة، صدر العديد من مواثيق الشرف الإعلامية التي تسعى إلى الإجابة عن مسائل أخلاقية ومهنية متأتيّة عن ممارسة الإعلام، واحدةًٌ منها الشفافيّة.
يبدو عنوان هذه الجلسة غريباً بعض الشيء. نبحث الشفافيّة في وسائل الإعلام في بلدٍ مشكلتُه الأساسية ضعفُ الشفافيّة في كلّ شيء.
تتمّ العمليّة الإعلامية في سياق اجتماعي معيّن، والإشكالية الأساسية التي تَطرح نفسَها: هل من إمكانيّة لوجود شفافية إعلاميّة في مجتمع غير شفّاف؟
في المجتمعات الديموقراطية يُفترَض أن يلعب الإعلام دوراً محورياً في تأمين المعرفة للمواطن ومساعدته على مراقبة ما يحدث وضمان شفافية ذلك.
يصبح الإعلام بذلك شريكاً أساسياً ولاعباً في المشهد العام، يكوّن الرأيَ العام ويُنشئ مساحةً للنقاش والمعرفة، ويساهم في تعزيز العملية الديموقراطية معطِياً للناس سلاحَ الرقابة والمحاسبة.
الإعلام لاعبٌ من جملة لاعبين أساسيين من أهل السياسة والاقتصاد والمجتمع، يسعون للحصول على نتيجة إيجابية من العملية الاعلامية، ويحاولون أحياناً فرضَ قواعد وممارسات تضمن لهم الوصولَ الى ذلك. يستعينون بمستشارين واختصاصيّين، ويضعون استراتيجيات إعلاميّة، يُبرمجون رسائلهم وإطلالاتهم، وتصبح الرسالة الإعلامية مصنّعة.
تفرضُ الشفافيّة الإعلامية الوضوحَ وما يُعرَف بالمصادر المفتوحة للمعلومات. وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحُسن سير الديموقراطية، لأنّ قولَ الحقائق يفترض تأمين الحقّ بالوصول الى المعلومات والحصول عليها. كما أنّ دورَ الإعلام هو أن يُراقب ويُقوّم ويساعد على إصدار الأحكام، وهو دورٌ لا يكون إلّا في مجتمع ديموقراطي حقيقي.
العوائق
هل نحن في مِثل هذا المجتمع؟ وما هي بالتالي العوائق أمام الشفافيّة في وسائل الإعلام اللبنانية؟
1- عوائق سياسية قانونية: الواقع الإعلامي في لبنان صورة عن الواقع السياسي السائد. وسائل الإعلام موزّعة في غالبيتها على القوى والتيارات والشخصيات السياسية. وهذا الأمر يعوق مهمّتَها في أن تقدّم خدمةً عامّة عندما يتعارض هذا الدور مع المصالح الخاصّة لأصحابها ومالكيها.
إنّ وسائل الإعلام، خصوصاً منها المرئيّة والمسموعة، تدخل إلى الناس في منازلهم وأماكن عملهم وعيشِهم بلا استئذان. وصارَ يستحيل على الانسان أن يكون في منأى عن تأثيرات هذه الوسائل وأجندات أصحابها.
ليسَت المعايير المهنية وحدَها، مِن دقّةٍ في العمل الإعلامي وتنويع مصادر المعلومات، والموضوعية، هي التي تعتمدها وسائل الإعلام. نرى أحداثاً هامشية تُضخَّم وتُعطى تغطيات لا تستحقّها، وقضايا ضخمة مُثيرة للجدل تُهمَّش أو يُعتَّم عليها. والسبب في الحالتين تأثّر وسائل الإعلام بمصالح مالكي المؤسسة الإعلامية الذين يضعون لها قواعدَ عمل خاصّة.
مِن حقّ اللبنانيين أن تكون لهم وسائل إعلام حرّة تعمل بمهنية، تنقل كلٌّ منها إليهم الصورةَ كاملةً، فلا يضطرّون الى الاستماع إليها كلّها أو مشاهدتها كلّها أو قراءتها كلّها حتى تكتملَ عندهم الصورة.
غالبية وسائل الإعلام في لبنان مكبَّلة بملكيتها السياسية، وبعضُها تحوّلَ نتيجة ذلك مجرّدَ ناطق إعلامي أو مروِّجاً لسياسات وآراء فريق محدّد، تتوجّه الى جمهور ضيّق هو جمهور الحزب أو التيار أو الجماعة لتثبيته وتحفيزه.
وسائل الإعلام عندنا عاجزة عن القيام بدورها، بعدما وزّعَها قانون الإعلام المرئيّ والمسموع الصادر عام 1994 حِصَصاً وجوائز على الطوائف والأحزاب. وبالتالي أيُّ شفافية ممكنة في ظلّ هذا الواقع؟ وأيّ دور تغييري في تكوين الرأي العام يُرتجَى من وسائل الإعلام؟
2- عوائق اقتصادية: تخضع المؤسسات في العالم بأسره لاقتصاد السوق. ولا تشذّ وسائل الإعلام عن هذه القاعدة. يرتبط تطوّر نوعية الإعلام ارتباطاً وثيقاً بمدى استقلالية هذه الوسائل، التي تتميّز بكونها في آن واحد مؤسسات اقتصادية تعمل وفق قواعد السوق، ومنابر اجتماعية – ثقافية تتوجّه الى الجمهور. وبذلك فإنّ إنتاج هذه الوسائل يُباع مرّتين إذا صحَّ القول، إلى الجمهور العريض وإلى المعلنين.
وبالتالي، فإنَّ المخاطر من تأثيرات سلبية على مضمون الرسالة الإعلامية، كبيرة. يجعل البُعد الاقتصادي هذا المضمون في المرتبة الثانية على لائحة الأولويات. وبالتالي يتحوّل القارئ والمشاهد والمستمع مجرّد زبون مستهلك.
تنقادُ مختلف وسائل الإعلام لضغط نسَب المشاهدة والاستماع والقراءة. وتحت لافتةِ طلب ودّ الجمهور وتحقيق رغباته طمَعاً بزيادةٍ في كعكة الإعلانات، ينتشر الترفيه ويَعمّ التسطيح ويتراجَع ما يُعرف بإعلام المواطن.
شاشاتُنا خصوصاً، فيها الكثير من الإثارة والاستعراض ومخاطبة الغرائز. ومع ذلك فإنّ أكثرية وسائل الإعلام مؤسساتٌ اقتصادية خاسرة، عاجزة عن تأمين أكلافها من خلال إيراداتها الإعلانية واستثماراتها، وهي تلجأ من أجل تأمين بقائها إلى أهل السياسة والفنّ والاقتصاد والمجتمع، لقاءَ خَدمات مدفوعة على صفحاتها وأَثيرها وشاشاتها.
وبعضها الآخر يتولّى مالكوها تعويضَ خسائرها بمساهمات ماليّة مباشَرة. وفي الحالتين تربح المؤسسة الإعلاميّة استمراريتها، وتخسَر شفافيتها ومصداقيتها عند الرأي العام.
3- عوائق قانونية: حقٌّ آخر من الحقوق المفقودة في لبنان، هو الحقّ في الوصول الى المعلومات. سبَقتنا دوَل عربية، بينَها الأردن، في إقرار قانون الحق بالحصول على المعلومات. وفي عدد كبير من الدوَل الديموقراطية، بإمكان المواطن والاعلامي الحصول على المعلومات التي يريدها من خلال مراجعة المواقع الإلكترونية للإدارات الحكومية والمؤسسات العامة. بإمكانه أيضاً طلب المعلومات من مصادرها ومن المرجع الصالح.
في لبنان الشفافيّة غائبة كلّياً في هذا الموضوع. في عصر انفجار المعلومات وتدفّقِها على وسائل التواصل الاجتماعي يصطدم الإعلاميّ بنصوص قانونية ستالينية، بينها المرسوم الاشتراعي الرقم 112 الصادر في 12 حزيران 1959 والذي يُحظّر على الموظف في القطاع العام إعطاء أيّ معلومة قبل الحصول على إذن خطّي من الوزير المعني. أي أنّ الإعلامي الذي يستقصي عن قضيّة يمكن أن يكون الوزير متورّطاً فيها يحتاج إلى إذنِ هذا الوزير للحصول على معلوماته.
كما أنّ المرسوم الاشتراعي نفسَه يمنع على أيّ موظف الإدلاءَ بمعلومات حصلَ عليها خلال ممارسته وظيفتَه حتى بعد انتهاء مدّة خدمتِه، بلا ترخيص خَطّي صادر عن وزارته بذلك. تحدّ هذه العوائق القانونية كثيراً من عمل الإعلاميين، وتقف حائلاً دون نقلِ الحقائق والوقائع، وتكوين صورة شاملة عن الحدث.
4- عوائق مهنية: تدلّ إحصاءات نُشِرت في فرنسا حديثاً على أنّ أقلّ من نصف الفرنسيين لديهم ثقة بما تقدّمه وسائل الإعلام لديهم. صار الجمهور اليوم أكثر ثقافةً وعلماً، وبالتالي بات أكثر تطلّباً، يريد مادة إعلامية نوعية. هذا الأمر يفرض وجودَ إعلاميين محترفين مِهنيّين مسؤولين قادرين على نقلِ صورة الحدث كما هي.
لا حاجة هنا لتعداد أمثلة لا تُحصَى عن تغطيات ومعالجات في لبنان تفتقد معاييرَ العمل الصحافي. المنخفَض الجوّي هو في الغالب عاصفة تتصدّر النشرات والصحف، والمخالفات الدستورية والقانونية ملفّات منسية يغلب عليها الاستعراض قبل أن تُطوَى. التحقيقات القضائية التي يُحظّر القانون نشرَها تُنشَر وتُطلق الاتّهامات وتُحدَّد المسؤوليات فيها قبل صدور الأحكام القضائية.
يُضاف الى ذلك أنّ الإعلامي ليس مجرّد وسيلة ناقلة لما يَحدث، مستقيلاً من دورِه في معالجة المعلومات، فيتأكّد من الوقائع، ويَجمع الروايات ويُغربِلها ويتواصَل مع المصادر، قبل أن يقدّم روايتَه الخاصة للحَدث.
مع أنّ السبقَ الصحافي لم يَعُد هو القاعدة التي تُحدّد نجاحَ العمل الإعلامي، فإنّ إعلاميّين عديدين في لبنان يقعون في المطبّ ويسقطون في التسرّع بدلاً من السرعة.
وباتت المشكلة أكبر مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث المعالجة السريعة والجزئية لا تستوفي الشروطَ المهنيّة المطلوبة. كما أنّ الواقع الإعلامي الجديد الناشئ بعد ظهور هذه الوسائل، حيث كلّ مواطنٍ إعلاميّ، جعلَ مقادير الشفافية في مستوى متدنٍّ.
إنّ الشفافيّة تفرض تقديمَ رواية كاملة، فيها الرأي والرأيُ الآخر بعدالة. وهي عندنا قليلة الدسَم إذا توافرَت، نتيجة الاصطفافات السياسية والطائفية في ملكيّة وسائل الإعلام. والنتيجة أنّ الرواية الكاملة لا تتوافر للمتلقّي إلّا بمشاهدة الكلّ، والاستماع للكلّ، وقراءة الكلّ.
يحمل غياب القواعد المهنيّة خطراً آخرَ هو تحوُّل وسائل الإعلام، وسائلَ طاغية. ليست الحرّية أبداً أن نقول كلّ شيء كما هو حاصل، بل أن نقولَ كلّ ما تمّ التأكّد والتحقّق منه وجَمع المعلومات عنه من مصادر متعدّدة موثوقة.
خطوات الضرورة
إعلام اليوم هو إعلام الصورة، يكتفي بمظاهر الأشياء من دون البحث عن جوهرها. وما ذكرتُه غَيض من فيض، وهو يدلّ على أهمية إعداد طلّاب الإعلام في كلّيات الإعلام ومعاهده، وضرورة تنظيم دورات وورَش عمل مستمرّة للإعلاميين تزيد قدراتهم ومؤهّلاتهم.
أمّا الخطوات التي أراها ضروريّة من أجل إعلام أكثر شفافية ومهنية، فأختصرُها بثلاث:
– الأولى وهي الأكثر أهمّية، إعادة النظر في قانون الإعلام المرئي والمسموع، بما يُنهي وضعَ الإمارات الإعلامية القائمة، ويجعل ملكية وسائل الإعلام أوسعَ من الطوائف والأحزاب.
تفترض الشفافيّة أيضاً إطلاقَ حريّة إصدار الصُحف والمجلات بلا امتيازات. تبدأ الشفافيّة من رأس المؤسسة الإعلامية، ورأسُ المؤسسة هو مالكُها. وعليه، لا ينبغي أن تكون ملكية هذه الوسائل وكالاتٍ حصريّة مغلَقة في عصر الإعلام المفتوح.
– الخطوة الثانية في الطريق، هي إقرارُ القوانين اللازمة، وعلى رأسِها قانون الحقّ بالحصول على المعلومات من أجل تأمين المصادر والمراجع وتوفير ما يلزم للإعلاميين. إنّ غيابَ الشفافيّة في هذا المجال من شأنه فتحُ باب التسريبات والاجتهادات والتأويلات، وكلّها مشاريع اغتيال للعَمل الإعلامي المحترف. إنّ الدورَ الأخلاقي لأهل الإعلام في هذا المجال أساسيّ في مواجهة كلّ أنواع الضغوط الهادفة إلى تقديم رواية ناقصة أو مغلوطة للحَدث.
– وثالثُ الخطوات المطلوبة هو تطوير مناهج كلّيات الإعلام ومعاهدِه، حتى تُصبح هذه الكلّياتُ والمعاهد المصانعَ الأساسية لإنتاج أهل الإعلام. الإعلامُ اختصاصٌ قائم بذاته في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وجزء كبير من مشكلة الشفافيّة يَكمن في أداء عدد من المعتدين على هذه المهنة، خصوصاً أولئك الذين يعملون فيها من دون توافر الكفاءة المطلوبة.
يقول سيرج جولي، مؤسّس جريدة «ليبيراسيون» الفرنسية، إنّ القواعد الذهبيّة الثلاث في العمل الصحافي هي:
– الفضول، ومن دونه يكون الصحافي فاقداً حسَّ البحث عن المعرفة.
– التحقيق والتأكّد، ومن دونِهما تغيب المهنيّة ويتخلّى الصحافي عن دوره.
– الشَكّ، حتّى في ما يفترضه الصحافي حقيقةً لا جدال فيها. هكذا يمكن الاقتراب من رواية الواقع كما هو.
وبعد، إنّ الشفافيّة في الإعلام عنصر مساعد وضروريّ لتعزيز الديموقراطية ومساعدة المواطن على المشاركة في الشأن العام بفاعليّة مراقِباً ومحاسِباً.
من دون هذا الدور يفقد الإعلام دورَه في تكوين رأي عام مطّلع، واعٍ، قرارُه مبنّي على معرفةٍ وَفّرَها الإعلام. ومن دون الشفافيّة لا يمكن لهذا الدور أن يكون.
أخيراً لا إعلامَ من دون حرّية. هي جوهر هذه المهنة – الرسالة. ولا إعلامَ من دون صحافيّين أحرار يسعون إلى التغيير بشفافيّة، ومن خلال سلاح الكلمة.
• مدير قسم الإعلام والتواصل
في جامعة القديس يوسف