15 ألف لوحة مزوّرة مقابل 5 آلاف لوحة عموميّة قانونيّة
في ظل الإهمال المتمادي تجاه العاملين في قطاع النقل والوعود الفارغة كما الحلول الوهمية، بات ممكناً الآن، أكثر من أي وقت مضى، الحديث عن انفجار وشيك ستطاول شظاياه الجميع إن لم يتم تدارك الواقع المستفحل. إذ تكفي الإشارة، بحسب “الدولية للمعلومات”، إلى إنفاق حكومي بقيمة مليار و650 مليون دولار بين العامين 2010 و2019 على إنشاء الطرقات وصيانتها، لم ينل قطاع النقل العام منه شيئاً! في ما يأتي جولة أفق على أبرز مشاكل قطاع النقل المشترك في لبنان من وجهة نظر القيّمين عليه مع محاولة بحث، ولو في كومة قش، عن إمكانية استنباط “حلول ما” في المدى المنظور.
مما لا شك فيه أنّ قطاع النقل المشترك بعيد كل البعد عن التنظيم في ظلّ غياب تفعيل الخطط والمبادرات وحتى تخصيص الاعتمادات اللازمة والهيكليات الشاملة التي تحفظ حقوق السائق، من جهة، وتسهّل حياة المواطن اليومية، من جهة أخرى.
في هذا السياق يقول رئيس اتحادات قطاع النقل البرّي بسّام طليس، انّ كلفة النقل في لبنان تقع على عاتق القطاع الخاص الذي يقوم مقام الدولة في كل ما من شأنه إدامة نشاط النقل البرّي في البلاد، نظراً لعدم وجود قطاع نقل عام فعال تحت إشراف الدولة أسوة بالدول العربية والأوروبية.
ففي حين أنّ قطاع النقل العام يمثّل ما نسبته 80% عالمياً من إجمالي نشاط النقل، مقابل 20% فقط للقطاع الخاص، تبدو النسب معكوسة في لبنان، إذ يمثّل القطاع الخاص أكثر من 90% من إجمالي حركة النقل في بلد يُقدر عدد السيارات والمركبات المسجلة فيه بالمليونين بحسب العديد من الإحصاءات.
ولدى سؤاله حول مدى المساواة في توفير خدمة النقل المشترك لمختلف المناطق اللبنانية، يجيب المدير العام لمصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، السيد زياد نصر، بأنّ التوزع الاقتصادي والديموغرافي في لبنان، الذي نتج عنه تركّز عمراني وسكاني واقتصادي وسياسي غير متناسق مقارنة مع باقي المناطق في بيروت الكبرى، أدّى إلى تصاعد قوة جذب هذه الأخيرة. وأضاف أنه كلما ارتفع عدد سائقي السيارات في منطقة معينة كلما ازدادت الخدمات المرتبطة بهم، مثل شبكة الطرق وورش الصيانة والمواقف وحتى أماكن التسوق. للمفارقة، يؤكّد السيد طليس هنا أن عدد المركبات العمومية الموضوعة بالخدمة بجميع فئاتها (سيارات سياحية، ميني باص وأوتوبيس) يغطي نظرياً حاجة المواطنين في التنقل، مردفاً “نحن الآن بصدد تنظيم الخطوط بشكل أفضل بالتعاون مع وزير الأشغال العامة والنقل، تحضيراً للبدء بتطبيق خريطة دعم للقطاع اعتباراً من بداية شهر كانون الأول من العام الحالي تماشياً مع الالتزام الذي حصلنا عليه من رئيس الحكومة يوم الاضراب الذي كان مقرراً في 27/10/2021”. لكن حتى إشعار آخر، هل ثمة ما هو أسوأ من سوء توزيع الوفرة”؟
وبينما لا يخفى أنّ غياب الدولة كراعية رسمية لعمل قطاع النقل البرّي انعكس بشكل مباشر على السائقين والمواطنين وحتى على عجلة الاقتصاد الوطني، فقد تسبّب ذلك أيضاً بتراجع في تنظيم عمل القطاع وتزاحم “غير قانوني” للعمل فيه. إضافة إلى أن المداخيل ذات الصلة تدنّت نظراً لما كان يحققه القطاع من أرباح لخزينة الدولة، إن من خلال الرسوم الجمركية، رسوم بطاقات مزاولة المهنة، تعريف المركبات، رسوم الدخل، بدل أسعار المحروقات وقطع الغيار…
خطط في الجوارير
تدهور واقع القطاع من عام لآخر جعل أصحاب الشأن يرفعون الصوت من خلال مبادرات وخطط واقتراحات حلول، طواها الزمن في “جوارير” الحكومات المتتالية. مثلاً، القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء عام 2004 بتخصيص مبلغ 50 مليار ليرة لبنانية لشراء 250 أوتوبيساً للاستخدام في بيروت الكبرى، لم يبصر النور إلى التنفيذ؛ خطة “النقل الوطنية” التي وُضعت بالتعاون مع وزارة الأشغال العامة والنقل ومجلس الإنماء والإعمارعام 2011، والتي قسّمت إلى ثلاث مراحل، بهدف تحقيق التكامل بين القطاعين العام والخاص وإعادة إحياء النقل المشترك، سكك الحديد ونظام “المترو”، لم تلق أي تجاوب حتى اليوم؛ الدراسة الجاهزة التي أعدّها بنك الاستثمار الأوروبي عام 2013 بكلفة مليوني دولار أميركي كهبة للدولة اللبنانية لم تُطبّق هي الأخرى. قرض البنك الدولي الذي حصلت عليه الحكومة اللبنانية سنة 2019 بقيمة 295 مليون دولار لتمويل مشروع الباص السريع لم يبق منه في متناول وزارة الأشغال العامة والنقل سوى 40 مليون دولار بعد أن تقرر أخيراً تحويل 255 مليون دولار من أصله لتمويل البطاقة التمويلية الموعودة.
تزوير واحتيال
أحد السائقين العاملين على خط برمانا – الدورة، والذي يعمل منذ 22 سنة في هذا المجال، يصف حياته اليومية كما حياة العديد من أقرانه من السائقين بـ”جهنم الحمرا، بس لازم نتحمّلا… ما عنّا بديل”. فجحيم السائقين ليس مقتصراً على الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار وغلاء أسعار قطع الغيار فحسب، إنما على رفع الدعم عن المحروقات أيضاً. ناهيك عن شبه انكفاء رسمي عن تطبيق القوانين التي تحمي العاملين في القطاع، لا سيّما مكافحة التعديات من لوحات مزوّرة ومكرّرة، إلى عمالة أجنبية غير شرعية، وأخيراً وليس آخراً معاينة ميكانيكية غير قانونية.
في سياق متّصل، يشير أحد السائقين على خط المتحف – بحنس، أنّ اللوحات المزوّرة تتجاوز أضعاف اللوحات القانونية. وللتأكّد من هذا الموضوع، طرحنا السؤال على السيد طليس الذي رد بتحميل الدولة مسؤولية وضع حد لهذه الظاهرة. وهي “ظاهرة منتشرة على كل الأراضي اللبنانية بدون استثناء، حيث هناك 15 الف لوحة مزوّرة مقابل 5 آلاف لوحة عمومية قانونية يكافح أصحابها للصمود في ظلّ الأوضاع الراهنة”. فمن نافل القول أن ارتفاع عدد اللوحات العمومية المزوّرة أدّى إلى ارتفاع حدة المنافسة والمضاربة غير الشرعية من قبل سائقين أجانب ينشطون بشكل غير قانوني على حساب السائقين اللبنانيين القانونيين.
أمّا في ما يختص بالمعاينة الميكانيكية، فحدّث ولا حرج. فهي تدار منذ 01/07/2015 بصفة غير شرعية. وهو ما دفع هيئة إدارة السير والآليات والمركبات إلى رفع كتاب رسمي إلى وزارة الداخلية والبلديات معتبرة أنّ استمرار العمل بالمعاينة الميكانيكية يتمّ بدون أيّ مسوّغ قانوني منذ التاريخ المذكور آنفاً. ووفقاً للسيد طليس، يتمّ الدفع مقابل إنجاز معاملات المعاينة لصالح أشخاص وليس لصالح جهات رسميّة.
يخبرنا زياد، أحد أصحاب الباصات في منطقة المتن، أنّ “الوضع، رغم تعقيداته، كان لا يزال محمولاً، إلى أن عصفت الأزمة الاقتصادية الأخيرة ملهبة أسعار قطع غيار المركبات، فأصبحنا عاجزين حتى عن القيام بالمعاينة الميكانيكية إذ إنّ ما نجنيه خلال شهر كامل لا يكفي ثمن تبديل إطار”. ويضيف: “كانت باصاتنا تتنقل على مدار الساعة أمّا اليوم، وبغية الحدّ من الخسائر، بتنا نركّز فقط على رحلة في الصباح وأخرى عند انتهاء دوام المدارس والعمل”.
هذا ورافق الحديث عن الاتجاه إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية والمحروقات تحذيرات متكررة من ارتفاع تكلفة النقل بشكل هستيري مع ما قد ينتج عنه من فوضى عارمة وتقطيع ما تبقى من شرايين حياة في أوصال القطاع. أما وقد وقعت الواقعة، فيستحيل التكلم عن تسعيرة موحّدة حيث تتفاوت بين منطقة وأخرى وشارع وآخر…لا بل بين سيارة أجرة وأخرى. ومع ذلك، يمكن ملاحظة ارتفاع التعرفة بنسبة لا تقل عن 70%. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت تعرفة الباص قبل حلول جائحة كورونا على خط برمانا – الدورة 1,500 ليرة لبنانية للشخص الواحد، لترتفع بعدها إلى 3,000 ل.ل محافظة على وتيرة تصاعدية لتصل اليوم إلى 10,000 ل.ل وأحياناً 12,000 ل.ل. أما ضمن نطاق بيروت الإدارية، فقد ارتفعت تعرفة الفانات من 3,000 ل.ل إلى 6,000 ل.ل يقابلها 60,000 ل.ل بدل توصيلة بسيارة أجرة داخل بيروت، 300,000 ل.ل كلفة التنقل من ضهور الشوير إلى بيروت و600,000 ل.ل من بيروت إلى شكا.
هذه الفوضى المتمادية بآلية التسعير دفعت بالاتحادات إلى تقديم اقتراح توفير دعم ما للقطاع بهدف الخروج بتعرفة موحّدة تصدر عن وزارة الأشغال العامة والنقل وتراعي ظروف السائق والراكب على حدّ سواء. والانتظار يطول.
حلول أم على الوعد؟
يرفع السيد نصر الصوت عالياً حول ضرورة أن يتصدّر قطاع النقل المشترك سلّم الأولويات في معالجة ما يعترض الحياة اليوميّة للمواطن. وهو الأمر الذي بات يستدعي معالجة شاملة وجدّية. كما ناشد الحكومة الجديدة بضرورة إقرار خطة النقل المشترك التي طال انتظارها، مشدّداً على ضرورة إيجاد حلول سريعة وجذرية تصحيحاً لممارسات السنوات السابقة “التدميرية” لأنّ المواطن لم يعد قادراً على تحمّل أعباء تفوق طاقته بأشواط.
وفي الختام، يشير السيد نصر إلى سعي لإيجاد آلية قانونية لإمداد السائقين العموميين بالمحروقات المدعومة تفادياً لخلق سوق سوداء تكوي جيوبهم المنهكة أصلاً. ويتطرق إلى الجهود المشتركة التي تُبذل مع وزير الأشغال العامة والنقل الحالي، الدكتورعلي حميّة، لرسم سياسة عامة للنقل يُقسم من خلالها لبنان جغرافياً إلى مناطق عدة، كما إلى تحقيق شراكة بين القطاعين العام والخاص.
لكن… إلى حين تبلور أي من الحلول المرجوة، تجدر الإشارة إلى بروز مبادرات مناطقية تقدّم تسهيلات خدمات النقل على غرار ما حصل مؤخراً ضمن نطاق بلدية جبيل. وقد لاقت هذه المساعي استحساناً من قبل المواطنين، رغم أنّ الخطة تشكل مخالفة صريحة لقانون السير على حدّ تعبير السيد طليس الذي لفت إلى أنه لو توافرت خطة نقل وطنية، لما لجأت البلديات إلى هكذا خطوة تسهيلاً لشؤون مواطنيها. هذا من دون أن ننسى رواج استخدام “التكتوك” والدراجات الهوائية في بعض المناطق الأخرى كبدائل توفيرية. فـ”الكحل” يبقى “أفضل من العمى”.
على أي حال، الإضراب الأخير عُلّق و”يوم الغضب” أُجّل. فهل تكون فترة الشهر كافية لتأمين الدعم والبدء بمكافحة التعديات على القطاع وإعداد مشروع قانون لإعفاء المركبات العمومية من رسوم الميكانيك والمعاينة لمدة سنة كاملة، كما التزم وزير الداخلية والبلديات؟
وفقاً للأرقام، ثمة ما يقارب 6,400 باص وحوالى 33,000 سيارة أجرة مسجلة في لبنان. فالجواب الذي تنتظره، إذاً، أكثر من 39,400 عائلة مهددة بما هو أعظم، كما عموم اللبنانيين، هو برسم حكومة بالكاد تلتئم في خضم أزمات تحاصرها من كل حدب وصوب. التجارب السابقة لا تدعو إلى التفاؤل، فماذا ينتظرنا؟