عين سائق الأجرة على مؤشر الوقود، ويده على قلبه، «أخذت منك 100 ألف، وصرفت 150 ألفاً لقاء البنزين»، يقول للراكبة التي تجلس في الخلف، مؤنّباً إياها لأنه لم يتوفّق بأي راكب آخر في طريقه من برج البراجنة إلى محلة الحمرا. «خسارة بخسارة»، يكرّر متمتماً قبل أن يصرخ غاضباً: «سأعود إلى المنزل وأركن سيارتي حتى الله يفرجها».
أم هاني تمشي حوالي النصف ساعة من منزلها في البسطة الفوقا قبل أن تستقلّ سيارة أجرة إلى منزل ابنتها في النويري. لا يمكن لسيدة في الستين أن تقطع هذه المسافة مشياً على الأقدام. لكن، لماذا لا تأخذ سيارة أجرة من أمام منزلها إلى منزل ابنتها؟ تجيب: «لأنني لا أملك ثمن التعرفة كاملة، بخاصة أنني أزور ابنتي يومياً». تتقاسم أم هاني المسافة بينها وبين السائق و«كلما اقتربت أكثر من وجهتي عرضت على السائق مبلغاً أقل، مثلا إذا قطعت نصف المسافة أعرض عليه توصيلي مقابل 50 ألفاً، أحياناً أمشي أكثر فأدفع أقلّ، أو أمشي أقل فأدفع أكثر»…
يزداد ترهّل قطاع النقل البري العام، فيما تركض صفيحة البنزين نحو المليوني ليرة (تقارب المليون و800 ألف)، وسبقها الدولار إلى عتبة المئة ألف. يتراجع عدد سيارات الأجرة في الطرقات بعدما قرّر بعض السائقين التخلي عن مهنة «تصرف عليها بدلاً من أن تصرف عليك». وتنعكس أزمة النقل البري على حركة الناس عموماً. فمعاينة طرقات الجنوب، الشمال، البقاع في أيام العطل وفي طقس ربيعي مشمس، وملاحظة الهدوء النسبي في شوارع العاصمة والطرقات التي اعتادت على زحمات السير بخاصة في أوقات معينة، تؤكد أن جزءاً كبيراً من اللبنانيين «محاصرون». تخلوا عن زيارة قراهم كما اعتادوا في نهاية الأسبوع. «يتقشفون» في تنقلاتهم، يختصرون مشاويرهم، وأحياناً يلغونها لتوفير كلفتها سواء امتلكوا الوسيلة أو احتاجوا إلى نقل عام.
التعرفة على حالها
يفتح الارتفاع الجنوني المستجدّ في سعر صرف الدولار وأسعار المحروقات الباب مجدداً أمام فوضى في تعرفة السرفيس والفان المحدّدتين. فهل تصمد عند الحدّ الشائع اليوم وهو 100 ألف للسرفيس و50 ألفاً للفان؟ يدور الحديث عن ميل إلى «دولرة» التعرفة وتحديدها بدولار وربع الدولار، بخاصة في بيروت، أي 125 ألفاً عند سعر صرف 100 ألف للدولار الواحد. سمع سائق الأجرة الياس، الذي يعمل في نطاق بيروت، كلاماً من هذا القبيل، من دون أن يلتزم به، فهو لا يزال يتقاضى 100 ألف مقابل التوصيل ضمن المسافات القريبة، وأحياناً أقل «بحسب المحارجات وعروضات الركاب التي تتوافق مع قدراتهم المادية». ولا يعني ذلك رضا الياس عن المصلحة واكتفائه بالتعرفة المحددة. فـ«سابقاً، كان بمقدور المصلحة تحمّل مصاريف السيارة (الآلة) ومصاريف السائق، أما اليوم، مع غلاء المحروقات (الرأسمال اليومي) وارتفاع كلفة الصيانة (الرأسمال الدوري) المصلحة تصرف على واحد من اثنين: السيارة أو السائق».
بناء على حسابات سائق الأجرة عمر: «سعر صفيحة البنزين حوالي المليون و800 ألف، ومصروف السيارة يساوي تقريباً 500 ألف يومياً (يشمل تغيير الزيت والفرامل وأعطال الميكانيك). إذا نقلنا 20 راكباً مقابل مليوني ليرة لا يبقى للربح غير مائتي ألف، أي دولارين». يبقى إصدار تعرفة نقل موحدة تراعي ظروف السائقين العموميين وإمكانيات المواطنين أمراً عصيّاً، إذ لا يوفر وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية مناسبة ليؤكد «عدم وجود أي تصوّر عن التعرفة التي يمكن تحديدها وعلى أيّ سعر صرف للدولار»، وهذا ما جدّده في الاجتماع الأخير حول قطاع النقل الذي ترأسه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي منذ أيام، وحضره حمية ووزراء الداخلية والبلديات بسام مولوي، الاتصالات جوني قرم، الاقتصاد والتجارة أمين سلام والسياحة وليد نصار، بالإضافة إلى اتحادات ونقابات النقل والهيئات المعنية بالقطاع.
منافسة غير قانونية
فوق كلّ ذلك، يتعرّض السائقون لمنافسة غير قانونية، تستعر كلما اشتدّت الأزمة من قبل سيارات خصوصية وآليات مثل التوكتوك، والتاكسي موتو، وتطبيقات مختلفة تأخذ الركاب من طريقهم. يصف محمد العمل في قطاع النقل العمومي بـ«المهنة التي يسهل مدّ اليد عليها من قبل لوحات مستنسخة ومزورة ولوحات خصوصية وكلّ من يخطر بباله نقل الركاب لكسب لقمة العيش باختلاف وسائل النقل من دون أي رادع قانوني ولا أخلاقي».
ناقش المعنيون هذه «الظواهر الجديدة» في الاجتماع نفسه، ونقل رئيس اتحادات ونقابات النقل البري بسام طليس عن ما جرى الاتفاق عليه مع وزير الداخلية لأخذ الإجراءات الأمنية المناسبة. أما بالنسبة إلى موضوع التطبيقات، فقال سلام، «كان وزير النقل واضحاً بأن هناك تطبيقات اتفقت مع وزارة النقل على نقل كل عملها إلى السيارات العمومية، وبعدم إرسال عمل لخارج السيارات العمومية وتكفل وزير النقل بمخاطبة وزارة الاتصالات لإيقاف هذه المنصات التي تخالف القانون والتي تفتح مجالات العمل لغير السيارات العمومية».
«محرومون من الكزدورة»
بما أنه لطالما جرت الزيادة على التعرفة من دون غطاء رسمي أو نقابي، سواء بالعودة إلى اتحادات نقابات النقل البري أو وزارة الأشغال العامة والنقل، ما الذي يمنع السائقين من زيادة التعرفة بالتوازي مع زيادة التكاليف بخاصة قوت السيارة المتمثل بالبنزين؟ الإجابة بسيطة: كلما ارتفعت التعرفة انخفض عدد الركاب. «كنا نقلّ 50 راكباً يومياً اليوم بالكاد نقلّ النصف، أي 25 راكباً بمعدل عشر ساعات يومياً».
يتحوّل الركاب إلى الباصات والفانات و«الأقدام»، خصوصاً بعدما كيّفوا حياتهم بشكل لا يحتاجون فيه لبدلات نقل للوصول إلى عملهم وللحصول على الخدمات باختلاف أنواعها، خاصة التعليمية. وفي حين يصعب اختيار جامعة مجاورة للمنزل، بعض الطلاب تخلوا عن متابعة محاضراتهم حضورياً، وبعضهم يمشون لمسافات طويلة مثل فرح التي تمشي ساعة ذهاباً ومثلها إياباً لتوفر كلفة الفان إلى الجامعة اللبنانية في مجمع الحدث. الجامعات أصلاً بدت متفهمة لهذه «المعضلة»، فخفّضت أيام التعليم إلى يومين أو ثلاثة أسبوعياً». وهذا يستكثره البعض، كما تنقل أستاذة جامعية عن «عجز أكثر من طالب وطالبة عن الوصول إلى صفوفهم ثلاثة أيام في الأسبوع لأنها تكلّفهم شهرياً مليونين و400 ألف». طبعاً المشكلة أعظم بالنسبة لسكان القرى الذين يحتاجون إلى بدلات «تهدّ الظهر» لتسيير شؤونهم في المدينة.
كنا نقلّ 50 راكباً يومياً اليوم بالكاد نقلّ النصف بمعدّل عشر ساعات عمل يومياً
من جهته، قلّل كريم «الكزدورة» مع أصحابه على الدراجة النارية. إذ «أسدّد 150 ألفاً يومياً ثمن البنزين للوصول إلى المعهد والعمل، فكم ستكلّفني المشاوير التي اعتدت أن أقوم بها ليلاً بعد العمل كلما شعرت بملل أو بضيق»؟ وعدلت يارا عن مخططها لزيارة البحر برفقة عائلتها في نهاية الأسبوع لأنها ستكلفها مليون ليرة بدل نقل عن 5 أشخاص، قبل احتساب كلفة الأطعمة التي سيتناولونها، وما رأته، «أن نشوي لحمة أوفر لنا وأحسن».
ذات مرة، أحضرت روزا فحوصات والدها من مستشفى «أوتيل ديو» في الأشرفية وتوجهت إلى عملها في فردان. وقفت كثيراً في الشارع لتجد سيارة أجرة توصلها لأن السائقين طلبوا بدلات مرتفعة لم تقبل بها. ظلت تحارج أحدهم حتى وافق أحدهم توصيلها مقابل 100 ألف بعدما طالبها بـ200. وصلت إلى عملها لتفاجأ أنها نسيت هاتفها في المستشفى. «مصيبة»، هكذا رأتها لأنها ستضطر لتقف على الطريق ثانية والذهاب إلى الأشرفية ودفع أجرة الطريق لمرتين إضافيتين. فتذكرت محارجتها للسائق: «لم أدفع له 100 إضافية فسأدفعها لآخر».