دولة من ورق. لا يحتاج هذا الوصف إلى دليل كالمأساة التي خلفها الطقس البارد لآلاف المقيمين واللاجئين في المناطق الجبلية. إلا أن دولة من هذا النوع هي التي تقدّم مع كل استحقاق بوصفها خياراً وحيداً لا غنى عنه لضمان ما يسمونه «ميثاق العيش المشترك». في هذه الدولة ترتسم السوريالية في أوضح صورها، حتى في مواجهة ظروف مناخية ليست استثنائية بحسب مقياس «الكوارث»
انتعشت الآمال بسنة غير شحيحة. سُرّ المقيمون على الساحل بالبياض يقترب منهم. وبدأت الاستعدادات لموسم تزلّج قد يكون مزدهراً. الأضرار المباشرة في المناطق المدينية عموماً، حيث يعيش معظم السكان (باستثناء اللاجئين السوريين)، بقيت أدنى من تجارب سابقة، عندما طافت مياه الأمطار على الطرقات والبيوت وانكشفت فيها، بالعين المجردة، نتائج الفساد في إدارة الدولة وعقودها وتلزيماتها من دون أن يُحاسب أحد. ولكن في المناطق الريفية، على الجبال والسهول، التي تشكل معظم مساحة لبنان، ويعيش فيها أكثر الناس هشاشة وفقراً، بمن فيهم اللاجئون السوريون والمزارعون والمياومون، تجمّدت الحياة هناك فعلياً، وتعطّل العمل بنحو شبه تام، بما يعنيه ذلك لأولئك الذين يعيشون كل يوم بيومه، وصدرت نداءات استغاثة معبّرة لإنقاذ حياة آلاف العائلات المتروكة بلا تدفئة أو غذاء أو دواء في خيم مشرّعة على الصقيع والسيول.
حوصرت بلدات وتجمعات لاجئين ومزارع بسبب تقاعس المؤسسات المعنية عن فتح الطرقات. حذّر رئيس بلدية أكروم (عكار) من «أن حياة عشرات الأطفال والمرضى والمعوزين من سوريين ولبنانيين مهددة على حد سواء». وقال رئيس اتحاد جرد القيطع «إن الثلوج عزلت قرى بأكملها وفرضت حظر تجوال على الأهالي ومنعتهم من الخروج من منازلهم للتزود باحتياجتهم الأساسية». وأكّد رئيس بلدية عين عطا (راشيا) «وجود حالات مرضية تعذّر إيصالها إلى المستشفيات (…) بعدما انقطعت الطريق الرئيسية لمدة ثلاثة أيام متواصلة». واضطر أهالي بلدة عكار العتيقة (عكار) إلى نقل إحدى القاطنات على أكتافهم إلى أقرب مستشفى بعد إصابتها بأزمة قلبية. وطلب أهالي بلدة يونين (بعلبك) النجدة لمريض يعاني من حالة طارئة ولم يتمكنوا من إسعافه. علق عشرات المواطنين في سياراتهم على الطرقات الجبلية. ولفت كاهن رعية ممنع (عكار) إلى أن «أحداً لم يتمكن من مغادرة البلدة»، وأن «الكهرباء مقطوعة منذ أسبوع، وقبل العاصفة، ولم يجرِ إصلاحها».
وناشد مزارعو بلدة عيحا (راشيا) فتح طريق الجبل الشرقي، حيث توجد 13 مزرعة فيها مئات رؤوس الأبقار والماعز المهددة بالنفوق… باختصار، كان يمكن أمس التقاط مثل هذه النداءات في كل اتجاه، شمالاً وجنوباً وبقاعاً، تعبيراً عن العزلة القسرية التي فرضها إهمال الوزارات وعجز البلديات أو تقاعسها. بل يمكن القول إن أكثرية المقيمين على ارتفاع 500 متر وما فوق فُرض عليهم تفادي مخاطر الانتقال بسبب ضعف إدارة الطرقات وغياب أي منظومة جدّية للتعامل مع مثل هذه الظروف المناخية. تقطعت الأوصال بين البقاع والساحل، وباتت رحلة الشاحنة أو الصهريج بينهما تحتاج إلى أيام بدلاً من ساعات.
هذا كلّه خلّف أضراراً مباشرة وغير مباشرة كان يمكن تفاديها حقاً. لكن ذلك غير متاح عبر سياسة الهرب من تحمّل المسؤولية والارتكاز على المثل القائل «الباب يلي بيجي منّو الريح سدّوا واستريح». لعل إقفال كل المدارس، حتى في المدن الساحلية، هو خير تعبير عن هذه السياسة، التي تُسهم أيضاً في إشاعة مخاوف قد لا تكون مبررة مع اختلاف الظروف والحالات. تكفي الإشارة إلى أن إدارات حكومية ومؤسسات عامّة وخاصة تكاد تتعطّل بسبب تغيّب الكثير من العاملين والعاملات عن أعمالهم، ولا سيما الأمهات العاملات وأكثرية الذين لفظهم النموذج الاقتصادي الريعي للسكن بعيداً عن المدينة والساحل، أي بعيداً عن مراكز النشاط الاقتصادي التي تُركت عن سابق تصور وتصميم بلا أنظمة نقل عام كفوءة تربطها بالتجمعات السكنية المستحدثة، كرمى لمصالح المضاربين على أسعار الأراضي.
الموجة الباردة التي تضرب لبنان لم تكن تستدعي إلا تدخّلاً منسقاً من إدارات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها لمنع حصول كل ما يحصل، وهي بهذا المعنى ليست استثنائية على هذا القدر الذي يجري تصويره. في الواقع، لم تكن إلا محفّزاً لوضوح أكبر في الصورة الكامنة خلف هذه الدولة: دولة من ورق تزيد هشاشة هذه البلاد في مواجهة أي استحقاق مهما كان. الإمعان في هذه الصورة يربط بين ما يحصل على الجبال وبين دولة تنأى بنفسها عن إدارة لجوء نحو 1.2 مليون سوري إلى لبنان، لا تعالج أزمة الكهرباء المقطوعة عن مناطق واسعة بفعل اهتراء شبكات التوزيع وانفضاح زيف الادعاءات حول كفاءة الشركات الخاصّة في توفير خدمات الصيانة. دولة تعادي مبادئ التنظيم المدني وترشو الناس بمخالفة قوانين البناء والتعدّي على الأملاك العامّة، ولا سيما على الأنهار ومصباتها التي تعدّ مسبباً رئيسياً للطوفان. دولة يقوم المسؤولون فيها بالسيطرة على البلديات والسطو على أموالها ويتركونها بلا أي قدرات أو إمكانات، ثم يتلطون خلف عجزها لتحميلها المسؤولية.
لم تتمكّن هذه «الدولة»، أمس، من القيام بأدنى واجباتها تجاه مواطنيها. أربكها تراكم الثلوج، على الرغم من «المساعي» التي قامت بها الجهات المعنية لفتح الطرق الرئيسية، من ضمنها وزارة الأشغال العامة والنقل. شكّلت العاصفة مناسبة جديدة ليكرر النظام اللبناني أساليبه «المفككة» في مواجهة الأزمات. غابت الهيئة العليا للإغاثة التي يُفترض أن تكون مهمتها مواجهة الأوضاع الاستثنائية، لا التزفيت الانتخابي واختلاس المال العام. وقيل إن الهيئة العليا لإدارة الكوارث (المجهولة المنشأ والعنوان) التأمت عند بدء العاصفة واتخذت القرارات والإجراءات الملائمة، لكن لم يظهر أي منها. في ظل ذلك، طغى تقاذف المسؤوليات بين السلطات المحلية (البلديات) ووزارة الأشغال العامة والنقل. من هي الجهة المسؤولة عن إنقاذ العائلات؟ يسأل رئيس بلدية عين عطا (راشيا) طليع خضر. تؤكد البلديات حاجتها إلى مساعدة وزارة الأشغال العامة والنقل لجرف الثلوج وفتح الطرق، فيما تلفت وزارة الأشغال إلى أن مسؤوليتها تقتصر على فتح الطرق الرئيسية فقط. يجدر الانتباه إلى أن ما يجري الحديث عنه مجرد عدد محدود من الجرافات والتجهيزات، وليس أموراً تعجيزية!
يقول المدير العام للطرق والمباني بالوكالة في وزارة الأشغال العامة، طانيوس بولس: «إن لدى الوزارة الإمكانات الكافية لمساعدة جميع البلدات والقرى، وإن توصيات الوزير غازي زعيتر أعطت نتيجتها على الأرض»، لافتاً إلى أن الوزارة تلبّي كافة المناشدات والطلبات. هذا الأمر تنفيه بعض البلديات، إذ إن بلدات كثيرة بقيت محاصرة بالثلوج على الرغم من الكثير من المناشدات التي وجهتها هذه البلديات إلى وزارة الأشغال لمساعدتها. يؤكد رئيس بلدية بقاعصفرين (المنية/الضنية) منير كنج، أنه تواصل عدّة مرّات مع مدير المنطقة الإقليمية التابعة لوزارة الأشغال الياس عقل، لإرسال بعض الجرافات لفتح الطرق الرئيسية، إلا أن الأخير لم يتجاوب (حتى ظهر أمس)، ويشكو عضو المجلس البلدي في بلدية عكار العتيقة (عكار) خالد ملحم، «تجاهل صرخات البلدية ومناشدتها فتح الطريق الرئيسية على الأقل».
يشير بولس إلى أن مسؤولية الوزارة محددة أساساً بفتح الطرق الرئيسية، «أما الطرقات الفرعية والداخلية، فهي من مسؤولية البلديات لأنها أدرى بها». إلا أن الأمر لا يعالج بـ»الدراية» فقط، فالبلديات التي هي «أدرى» تحتاج إلى من يمكّنها من امتلاك الوسائل لتقوم هي بمهمات فتح الطرق. «فليتحملوا نفقات استئجار جرافات، أو فليرسلوا جرافاتهم ونحن نقوم بالباقي» يقول كنج، موضحاً: «نحن لا نمتلك الأموال اللازمة لتحمّل هذه النفقات»، لافتاً إلى أن «البلدية تأخذ بعض الأموال من أهالي البلدة كي تتحمّل نفقات الجرف». يرد بولس بأن «على البلديات أن تقوم هي بالمبادرات لتوفير الوسائل اللازمة لتتدارك الوضع في هذه الحالات»، ويضيف: «من المفترض أن يكون لدى البلديات الاعتمادات اللازمة لهذا الأمر». كيف ذلك؟ يسأل ملحم، فالدولة لا تفي بجميع التزاماتها، والبلديات لا تحصل على جميع مستحقاتها.
تقاذف المسؤوليات كشف عن استغلال بعض مراكز النفوذ للأوضاع الاستثنائية لتنفيع بعض المحاسيب. يشير ملحم إلى تعطّل إحدى الجرافات التي أرسلتها وزارة الأشغال إلى البلدة في منتصف الطريق، مؤكداً أنها ليست المرة التي يحصل فيها هذا الأمر. يقول إنّ «على وزارة الأشغال أن تتعاقد مع متعهدي جرافات تمتلك المواصفات الفنية التي تؤهلها للقيام بعمليات الإنقاذ، لا أن تزيد هذه الجرافات الطين بلّة». لا ينفي عقل ذلك، يقرّ بأن هناك بعض الجرافات القديمة، وقد يتطلّب وصولها إلى بعض القرى النائية وقتاً. استغرق وصول جرافات إلى بلدة عين عطا أكثر من يومين، وفق ما يقول نصر، لافتاً إلى «عجز الجرافات التي وصلت عن القيام بالمهمات المطلوبة». يقول نصر: «لم تكن هذه الجرافات مجهزة بسلاسل حتى، فكيف لوزارة الأشغال أن تتعامل مع متعهدي جرافات بهذه المواصفات؟».
يرى المدير العام للدفاع المدني، العميد ريمون خطار، أن الدور الأساسي الذي يؤديه الدفاع المدني عند حدوث عواصف طبيعية هو التحذير منها قبل وقوعها من خلال توزيع الإرشادات على وسائل الإعلام لتوعية المواطن على كيفية التصرف قبل العاصفة وأثناءها، وعلى السبل الوقائية، فضلاً عن وضع العناصر في المراكز في حال الجاهزية التامة لتلبية نداءات الاستغاثة. يشير خطار إلى أنه لا يوجد في القانون ما يفرض على الدفاع المدني تحمّل المسؤولية الأساسية عند وقوع الكوارث، ولكنه يعمل ضمن الإمكانات المتوافرة «لتنفيذ المهمات الموكلة إليه».