كنّا أعربنا في مقال سابق عن الهواجس التي تساورنا وتساور الكثيرين من أن تشرع المبادرة الثلاثية الأضلاع التي أطلقها الرئيس نبيه بري، وطرحها على النقاش في الجولة التاسعة عشرة لهيئة الحوار الوطني، الأبواب أمام حزب الله وحلفائه المعلنين والمستترين للعودة إلى عقد مؤتمر تأسيسي من حيث ندري أو لا ندري يُعيد البحث في النظام اللبناني وتركيبته برمّتها، لعلمنا وعلم الجميع بأن الحزب جاهر أكثر من مرّة، وفي عدّة مناسبات برغبته في عقد مثل هذا المؤتمر لتحسين حصة المكوّن الشيعي في النظام السياسي على حساب المكوّن المسيحي باعتماد المثالثة بدلاً من المناصفة الميثاقية والتي كرّسها اتفاق الطائف بعد أكثر من خمس عشرة سنة من الحروب الأهلية، كما على حساب حصة المكوّن السنّي في شكل أساسي، لجهة تشذيب صلاحيات رئيس الحكومة السنّي الذي بات في نظره الأقوى في النظام القائم، لتوزيعها على أركان الهرم اللبناني الآخرين وأولهم رئيس الجمهورية لتعزيز موقعه كحكم وتمكينه من البت والحسم في القضايا والملفات.
لم نكن نقصد من إطلاق هذه الهواجس التشكيك في حُسن نوايا الرئيس برّي، ولا في حرصه على استقرار النظام القائم، بقدر ما كان قصدنا تسليط الأضواء الكافية على المبادرة التي أطلقها، وعلى الثغرات التي تعتورها والتي ستؤدي حتماً إلى إعطاء البعض الفرصة التي ينتظرها منذ زمن ويستعد لها كما تؤكد عليه إصراره على تعطيل الانتخابات الرئاسية، وعلى هدم مؤسسات النظام واحدة تلو الأخرى من السلطة الاجرائية إلى السلطة التشريعية وربط كل ذلك بسلة الإصلاح الشاملة والمتكاملة التي استخدمها أمين عام حزب الله في كل مرّة كان يُسأل عن الأسباب التي تكمن وراء إصراره على تعطيل انتخاب رئيس جمهورية.
ولا نشك أن الرئيس برّي يعرف هذه الحقيقة حق معرفة ويعرف بالتالي أن أولوية الأولويات إنجاز الاستحقاق الرئاسي قبل خوض غمار أي استحقاق آخر، ولأجل ذلك، أطلق مبادرته لعقد هيئة الحوار وجعل الاستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس للبلاد البند الأول والأخير على جدول أعمال هذه الهيئة، ودولته يعرف، ولا نشك أنه يخشى من أن توصلنا الانتخابات المبكرة التي طرحها في مبادرته إذا ما حصلت في ظل فراغ سدة الرئاسة إلى الفراغ الشامل بحيث تصبح الحكومة السلامية أو المصلحة الوطنية مستقيلة حكماً حسب دستور الطائف في وقت الرئاسة شاغرة وملؤها غير مضمون، لا سيما إذا جرت الانتخابات على أساس قانون الستين لأنه سيفرز حتماً نفس التركيبة البرلمانية الحالية أو شبيهاً بها فنكون من حيث ندري أولا ندري قد ساهمنا في الدخول إلى الممر الإلزامي المسمّى بالمؤتمر التأسيسي لإعادة النظر في النظام والطائف وتركيبته الميثاقية برمّتها، وحتى لا نقع في هذا المأزق بات المطلوب سلوك الطريق الطبيعي والدستوري للخروج منه ويكون ذلك بالنزول إلى البرلمان لانتخاب رئيس ووضع حدّ للعبة تعطيل النصاب، وبعدها تصبح كل المبادرات من تشكيل حكومة وانتخابات نيابية مبكرة مقبولة ومطلوبة وتحت سقف الطائف والميثاقية.