لعلّ أصدق توصيف للمرحلة التحضيرية للانتخابات النيابية، ما قاله أحد الظرفاء: «الكذب الانتخابي فاق الدين العام». صار الصدق تهمة، والوفاء رذيلة، والغدر فضيلة، والطعن في الظهر أمانة، ونكران الجميل وصية سماوية، وقلة الاخلاق السياسية وغير السياسية نزاهة وشفافية، ومنطق الجمع بين اللبنانيين حراماً، ومنطق التفريق بينهم حلالاً، والشحن الطائفي والوطني واجباً وطنياً، والوطنية من الموبقات»! فماذا بقي من القانون الانتخابي؟ وأيّ انتخابات ستحصل في هذا الجو؟ وأيّ أمل سيُرجى منها؟
قيل مع إعداد القانون إنه «إنجاز»، سينقل الحياة النيابية في لبنان من زمن أكثري قام على محادل وجرّافات طائفية ومذهبية، الى زمن نسبي ولو بصورة جزئية، سيمتِّن حبال الوصل والتواصل بين اللبنانيين، وسيؤدي الى خلطة وطنية متوازنة بتمثيل عادل وصحيح ومتوازن لكل المكونات.
لكنّ هذا الكلام النظري الجميل، سرعان ما ضاع في غابة غرائزية مقيتة، يحكمها أداء مريب لبعض القوى السياسية، قفزت فيه فوق ضوابط القانون وأحكامه ومبادئه. وبدل أن تسلم بالتنافس الشريف الذي يفترض ان يحكم انتخابات 6 ايار، راحت الى الحديث عن حسم وبطولات وانتصارات خرافية، وذهبت نحو خطاب غرائزي ومزيد من التمذهب والتطييف، والهدف جباية مقعد هنا ومقعد هناك، ومن دون النظر الى الأضرار الجانبية الخطيرة التي سبّبها ويسبّبها هذا المنحى، وما يؤسّس له مخاطر في المستقبل.
هذه الفئة من السياسيين تبرّر أداءها ومغادرتها مبادئها و»لَحسها» شعاراتها، بأنّ ذلك تكتيكي وآني، لزوم المعركة الانتخابية، وبعد 6 ايار يوم آخر ويمكن لملمة الوضع فيه، ولدينا قيادات قادرة على إعادة الجمع والانطلاق في مرحلة جديدة بسلام ووئام!
هذا المنطق يستبطن استخفافاً بعقول الناس، لكنّ الناس في نهاية الامر مشاعر، وأحاسيس، وعقل، وإدراك، وتفكير، لا تصدق لغة الاستسهال ولا يخدعها التبسيط، كل فصول المسرحية مكشوفة أمامها، وترى فيها ما يجعلها تقلق على مستقبلها، من قوى سياسية تؤسس بأدائها الى فتنة ما بعد الانتخابات؛ فكيف يمكن لملمة وضع صار «مفسّخاً» بالكامل؟
هل بالقول عفا الله عمّا مضى ونقطة على السطر، وتطوى الصفحة وكان الله يحبّ المحسنين؟ وكيف يمكن إعادة ترميم التهتّك السياسي والمذهبي والطائفي الكبير الذي ضرب كل المفاصل الشعبية وبات حجمه أكبر من ان يُحتَوى بسهولة؟
تبعاً لذلك، ليس من القوى السياسية من يقول بتغيير جذري في الصورة السياسية بعد 6 ايار، بل أقصى ما يمكن ان يحصل هو تغيير طفيف، يعدّل جزئياً باعداد الكتل من دون ان يعدّل في ميزان القوى.
ومع ذلك، تجد بعض السياسيين يتخفّفون من ايّ خطاب يراعي مشاعر الشعب اللبناني، ويقدمون خطاباً محقوناً بأقصى انواع التحريض، بالتوازي مع ابتداع أساليب جديدة في هذا المجال لم تكن مألوفة في السابق إسمها تسريب التسجيلات، بدءاً من تسجيل جبران باسيل وصولاً بالأمس الى تسجيل نهاد المشنوق. وهذا الوضع مفتوح على كثير من الحالات من هذا النوع من الآن وحتى يوم الانتخاب.
بديهي القول هنا، انّ من حق الناس ان تقلق، لأنّها خسرت رهانها على قانون انتخابي افترضت انه يلبّي بعضاً ممّا تطمح اليه، ولأنها ستجد نفسها أمام واقع سياسي تفرزه انتخابات 6 ايار، يعيد إنتاج التركيبة السياسية والسلطوية ذاتها؛ بتبعياتها السياسية، وارتكاباتها ومحاصصاتها وصفقاتها وعمولاتها وسمسراتها وعجزها وفشلها في إدارة الدولة.
المناخ الشعبي ينبض بخيبة كبرى من التحالفات الهجينة، التي أشعرت الناس بأنها مخدوعة من قوى سياسية ركبت فوق ظهرها وتسلّقت فوق ثوابتها ومشاعرها وطموحاتها، فإذا بها تَلحس تاريخها من اجل مقعد نيابي. وكذلك من تبرير هذه التحالفات بإلقاء المسؤولية على القانون الانتخابي بأنه يُبيح ما سمّاه السياسيون تحالفات موضعية انتخابية لا سياسية، والتي استغلّت لابتداع نوع آخر من المحادل والجرافات، وقطعوا الطريق على شرائح واسعة من اللبنانيين، ومنعوها من الوصول الى مجلس النواب.
وأمّا الخيبة الكبرى فهي من العقليات التي صاغت تلك التحالفات:
– عقلية لم تستفد من تجارب الماضي، فتجترّ شعارات ووعود اقتصادية مُهترئة، وتستحضر شعارات سياسية تستبطن عزفاً متعمّداً على وتر التحريض الطائفي والمذهبي كمَن يحاول إحراق البلد لإشعال سيجارة.
– عقلية أنانية، أرادت ان تأخذ كل شيء.
– عقلية إنتهازية، بلعت شعاراتها ومبادئها وقيمها، وأباحت لنفسها ما حرّمته على غيرها، لتحقيق مكسب هنا وربح هناك.
– عقلية غادرة شوّهت معنى الوفاء وما عادت تمتهن سوى الطعن في الظهر. ويشهد لها تنكّرها لمَن له فضل عليها، ويشهد لها ايضاً شربها من البئر، وعندما ترتوي ترمي فيها حجراً.
– عقلية استئثارية إقصائية وإلغائية للآخر، قدّمت نفسها كحوت كبير يهدّد بابتلاع الآخرين، والهدف كسر الحرم وإغلاق بيوتات سياسية مسيحية تحديداً، لها تاريخ وحضور عريق على مستوى السياسة والخدمات والتواصل مع الناس، وعلى رأسها ظاهرة الرئيس ميشال المر في المتن، التي لا يستطيع ايّ مراقب أن ينكر حضوره ورمزيته وما له من بصمات في السياسة في أهم وأدقّ المراحل التي مرّ بها لبنان، وما له ايضاً من أياد بيضاء طالت شرائح واسعة ليس في المتن فقط بل مسيحياً ووطنياً أيضاً، ويبدو هنا انّ استهدافه في مرحلة إعداد اللوائح لم يهدف فقط الى التصفية السياسية، بل الى محاولة ابتلاع الواقع الأرثوذكسي وتطويعه والتحكّم به.