يُصرّ «حزب الله» على أن يُعرّي نفسه بعد أن ينزع عنها آخر ورقة توت تستر «عورته» وإرتكاباته، ما يؤكد أن جميع الطرق والسُبل قد سُدّت في وجه الحزب الذي قرّر أن يوجّه فوهة مدفعه نحو أبناء جلدته هذه المرّة متهماً قسماً منها بـ»العمالة» بعدما سبق له وأن اتهمها بـ»الغباء» و»الخيانة» وبأنها تأتمر من المخابرات الأميركية وتحديداً بعبارة «شيعة السفارة».
من زاوية حشرته وأزماته، يستعيد «حزب الله» اليوم لغة التخوين ذاتها التي كان يستعملها في زمن مقاومته للإسرائيلي والتي كان يوجهها لخصومه السياسيين والعسكريين في الداخل والخارج. من الزاوية نفسها فبركت غرفة عمليات الحزب تلفيقات بحق موقع «جنوبية» الذي يرأس تحريره الصحافي علي الأمين متهمة إياه بتقاضي الدعم المادي من جهة إسرائيلية بعد أن توقف الدعم الأميركي للموقع المذكور، ليبدو الأمر وكأنه تصريح واضح بإهدار دم الأمين والعاملين في الموقع تحت تهمة العمالة لإسرائيل وهي التهمة التي أصبحت تتداول بشكل لافت على ألسنة قادة الحزب بحق كل من يُعارض سياستهم وتحديداً لجهة التدخل في الحرب السورية وفي شؤون الدول العربية وآخرها الهجوم المستمر على السعودية.
هو بيان نسجته مُخيلة أمنيّة في لحظة «صفا» تحت جنح الليل نسبته إلى جهة أمنية جاء فيه «أن الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي بات يشرف بشكل دوري على ما ينشر في موقع «جنوبية» لصاحبه الصحافي علي الأمين الذي يُنسق بدوره مع أدرعي بشكل مباشر عبر بريده الالكتروني وذلك بعد أن توقفت السفارة الأميركية في بيروت عن تمويل الموقع المذكور». وأشار البيان إلى أن «الأمين طلب من أدرعي الدعم، وجاءه الرد بالإيجاب لكن تحت شروط عدة أهمها: إشراف أدرعي وفريقه الإلكتروني على ما يُنشر في موقع جنوبية».
«عملاء«، «أغبياء« و«خونة«. عبارات سبق أن وصف بها الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله من اعتبرهم «شيعة السفارة«، وهي مفردات قد حملت حينها تصريحاً وتهديداً مباشراً بالقتل شبيهاً بـ«التكليف الشرعي«. واليوم يستكمل الحزب تُهمه هذه بعبارة مُستجدة وهي «العمالة لإسرائيل» ليبدو الأمر وكأن تهمة العمالة لأميركا لم تعد تفي بالغرض خصوصاً بعدما توحدّت المصالح مع «الشيطان الأكبر» في سوريا وتقسيم المنطقة وحوّلت عداوة الأمس إلى هدنة اليوم بإشراف وحماية وإدارة «السوخوي» الروسية.
جملة استنكارات رافقت الحملة الأمنية المنظمة ضد موقع «جنوبية» كان أبرزها تغريدة لوزير العدل المستقيل أشرف ريفي الذي اعتبر أن «حملة التخوين التي يتعرض لها الصحافي علي الأمين من قبل مناصري حزب الله أمر مرفوض ومدان«، لافتاً إلى أن «هذه الممارسات، تؤكد ضرورة مواجهة الوصاية الجديدة حفاظاً على حرية التعبير وصورة لبنان التي نتمسك بها».
أمّا الباحث والمُحلّل السياسي حارث سليمان فقد شدد عبر الموقع المُستهدف على أن «إعلام حزب الله لا يرتوي من الافتراء ولا تشبع شهيته المفرطة للاعتداء على خصومه أي وجبة من وجبات العدوان، هذه فئة تعلن انتسابها الى عقيدة دينية تفترض ورعاً وانحيازاً للعدالة«، لافتاً إلى أن «أمن الحزب وإعلامه لا يجيدان من الورع سوى التجني ومن العدالة لا يرضيه إلا التبعية وإعلان الولاء له، وإذا كان التشيّع بجوهره هو مواجهة للظالم ونصرة للمظلوم، فإن ممارسة هؤلاء لا تحترم أي معيار من معايير أمثولة الحسين وشهادته للحق«.
وتابع: «من كان مع الحزب جهير الولاء له، ألبسه ثوب القداسة والعصمة والنزاهة والوطنية، وضمن له رغد العيش في الدنيا ونعمة الجنة في الآخرة. سيصبح منزهاً محمياً، حتى لو ثبت في وقت قادم أنه؛ قاتل أو مهرّب أو فاسد أو نصّاب، سرق أموال المحازبين متخفياً بانتمائه للحزب وتلبسه رداء المقاومة، لا يطرف للحزب جفن حتى لو كان متعاملاً سابقاً مع عدو أو جاسوساً لإسرائيل اخترق صفوف الحزب ونقل أخباره«، معتبراً أن «كل من خضع للحزب سيصبح أيقونة تلمع يومياً مهما فعل أو ارتكب أو أفسد أو سرق«.
ومن باب الاستنكار أيضاً صرّح الدكتور محمد قوّاص لموقع «جنوبية» قائلاً: «لم يعد حزب الله قادراً على الإدعاء بسلوك تسامحي مع أصوات الاعتراض داخل الطائفة الشيعية. ولئن كان غضُّ الطرف عن ظواهر المعارضة الشيعية مردّه هامشية مزعومة قد لا تنالُ كثيراً من شعبية الحزب والتفاف الشيعة حوله، فإن التراكم الذي حققته تلك الأصوات بدأ يصبح حالة مؤثرة فاعلة على النحو الذي يقلق الحزب وقيادته«.
وتابع: «لقد مارس حزب الله ضغوطاً جمّة لعزل الصوت الشيعي الحرّ وإبعاده، بالنفي أحياناً، عن منابر الفعل والتأثير. تعامل الحزب مع تلك الحالة بنعوت متعددة في خبثها مختلفة في تُهمها. فتارة هم «شيعة السنة« وتارة هم «شيعة السفارة« وتارة هم «شيعة السعودية«، على نحو يفيد للعامة أن أي صوت مختلف هو صوت مشبوه وأي رأي معارض هو رأي خائن، وأن لا شيعة في هذا العصر إلا «شيعة إيران«.
الصحافي المعني الأساس في بيان «وطاويط الليل» رئيس تحرير موقع «جنوبية» علي الأمين يؤكد في حديث إلى «المستقبل» أن «الهجمة عليه وعلى الموقع، سببها أنه منبر لمناخ شيعي مختلف وحر، له حضور وفاعلية في البيئة اللبنانية والشيعية، وهو الأمر الذي يُزعج البعض خصوصاً أن الموضوعات التي يهتم بها تعكس وجهة نظر الكثير من الشباب الشيعي الذي يعتبر أن الطائفة الشيعية ليست محصورة بطرف واحد»، مشيراً إلى أن «الصوت الشيعي المعارض لحزب الله أكثر خطراً عليه من السلاح في أيدي معارضيه«.
وحول أبعاد البيان وما يُمكن ان يستتبعه، أعرب عن خشيته من أن يكون «تمهيداً لأمر ما، ففي السابق كنا نُتهم بالعمالة لأميركا، والآن لإسرائيل. شيطنوا الموقع ما يعني أنهم يهدرون دمنا والعدوان علينا بات متاحاً، ومع هذا تبقى أي إجراءات أمنية مُجرّد إجراءات عادية في ما لو أرادوا فعلاً السوء بنا لأن لا شيء سوف يردعهم عن أي فعل يُمكن أن يقوموا به»، معتبراً أنه من «المفترض من الأجهزة الأمنية المعنية التحرك خصوصاً وأن البيان منسوب إلى مصدر أمني. بدورنا سوف نوكل محامياً لمتابعة الملف وخلفياته».
أمّا في ما يتعلق بالدعم الإسرائيلي المستجد للموقع بحسب ما أشار البيان بعد توقف الدعم الأميركي، أوضح الأمين أن «الدعم المادي يقوم على تبرعات من الأصدقاء المقربين وتحديداً من أبناء الطائفة الشيعية بالإضافة إلى دعم بسيط من مؤسسة «net« الأميركية التي تدعم معظم المواقع في لبنان»، مؤكداً أننا «سنستمر برسالتنا عبر موقع «جنوبية» الذي يمتلك حيوية ولديه حركة يومية باتجاه التعبير وهو منبر للعديد من الآراء التي يمكن أن تكون تمثل جزءاً من الطائفة الشيعية وتعكس وجهة نظر مختلفة عن القوة المسيطرة على الطائفة وهي حزب الله».
هل هو التهديد الأول من نوعه؟. يجيب: «الرسالة وصلتنا وسنرد عليها بالطريقة التي نراها مناسبة، ففي مرحلة سابقة تعرض منزلي في بلدتي شقرا في الجنوب لتكسير محتوياته وهذه كانت إحدى الرسائل ولكن هذا لم يمنعني من الذهاب أسبوعياً الى هناك بالرغم من كل هذه الرسائل التي تصلني. وأريد أن أوضح أن المشكلة ليست في شخص علي الأمين ولكن المسألة أصبحت أن هناك موقعاً اسمه «جنوبية« أصبح لديه تأثير وفاعلية في البيئة الموجودة فيها«.
ومن جملة الاستنكارات، أعلن مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية «سكايز» (عيون سمير قصير) استنكاره «الحملة المبرمجة والتهمة التخوينية التي طاولت الموقع وصاحبه والعاملين فيه على السواء، هذه التهمة الجاهزة لضرب كل من اختلف في الرأي مع هذا الحزب أو ذاك«، محملاً «الأجهزة الأمنية مسؤولية سلامة الموقع وكل العاملين فيه«، وطالب بحمايتهم «تحسباً من أي اعتداء محتمل«، داعياً «المسؤولين المعنيين في قيادة حزب الله إلى ملاحقة المحازبين والمناصرين ومحاسبة المتورطين بنشر هكذا بيان مغرض ومفبرك وفتنوي«.