Site icon IMLebanon

الخديعة الأميركية تساعد الأسد وبوتين

ليس مفاجئاً أن تخدع أميركا الروس وتهاجم الجيش العربي السوري. كل الانتفاضة الروسية أصلاً ضد واشنطن على المستوى العالمي، كانت بسبب الخدائع الأميركية التي قالت موسكو إنها تعرضت لها من قبل في يوغوسلافيا والعراق وليبيا. كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يكرر في كل مناسبة انه لن يسمح بتكرار «الخديعة الليبية» في سوريا. ذلك ان الأطلسي حين غزا ليبيا وساهم في إطاحة نظامها وقتل عقيدها معمر القذافي وتركها تغرق في القتال والتقسيم والإرهاب والفتنة وبحر الدماء، كان قد برر دخوله آنذاك بالدواعي الإنسانية… وحين غزت أميركا وبريطانيا العراق بناء على كذبتي أسلحة الدمار الشامل وعلاقة الرئيس صدام حسين بالقاعدة، خدعت العالم آنذاك، لتعترف بعد قتل أكثر من مليون عراقي بأن الأمر كان خطأ ومبنياً على معلومات استخبارية مضللة.

لا شك في أن القصف الأميركي الذي أدى الى القتل والجرح العمد لضباط وجنود سوريين كانوا يقاتلون داعش، قد أصاب وزير الخارجية الاميركي جون كيري وربما الرئيس باراك أوباما قبل غيرهما، فهو أظهر الرجلين في نهاية عهد أوباما مخادعين ولا ينفذان ما يلتزمان به وعاجزين عن احترام أي اتفاق. لكن هنا يكمن جزء كبير من السؤال حول دور المؤسسة العسكرية الأميركية ورفضها الضمني للتنسيق مع الروس. لم ولن يقبل البنتاغون وتلك الآلة العسكرية والصناعية الأميركية التي تسيطر على جزء كبير من القرار السياسي، ان تصبح هي والروس في جبهة عسكرية واحدة فوق أي سماء وعلى أية أرض. لا تزال «المؤسسة» الأميركية تعتبر موسكو عدواً، لا بل إنها تعتبرها أكثر عداوة من أي وقت مضى مع رجل مثل فلاديمير بوتين جاء منذ مؤتمر ميونيخ في العام ٢٠٠٧ يقول لواشنطن «لن نكون بعد اليوم أتباعاً، فإما أن تعاملنا واشنطن معاملة الند للند او نغير أسس النظام العالمي».

اذا كان أوباما وكيري على اطلاع مسبق بالعدوان الأميركي على الجيش العربي السوري فهذه مصيبة، وان كانا قد فوجئا بخطوة المؤسسة العسكرية الاميركية كما فوجئت موسكو والجيش السوري، فالمصيبة أكبر، لأنها قد تشي أيضاً بما سيكون عليه الوضع الأميركي بعد انتهاء ولاية أوباما في سوريا وغيرها. لا بدّ من التذكير هنا بان البنتاغون لم يصادق بعد على ورقة التفاهم الأميركية الروسية، ولعل ذلك كان سبباً في عدم الكشف عن التفاصيل التي ألحت روسيا على ضرورة نشرها.

كيف ستوظف موسكو العدوان الأميركي؟

تبين من الهجوم الكاسح الذي شنه ممثل روسيا في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين على الأميركيين، ومن خلال الهجوم الاتهامي الذي شنته الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على أميركا، ان فلاديمير بوتين في أقصى لحظات الغضب. حين تقول زاخاروفا ان موسكو توصلت الى استنتاج «مرعب» بأن «أميركا تساعد داعش» في سوريا، فهذا يعني أن بوتين قرر نقل الكرة الى ملعبه وأنه سيبني على هذه «الخديعة» الجديدة استراتيجيته قصيرة المدى للفترة المتبقية من عهد أوباما.

في كلام بوتين يوم السبت رغبة في إحراج أوباما وإدارته برغم التعاون بينهما، فهو قال إن سوريا ملتزمة بما اتفقت عليه مع موسكو لناحية الهدنة، واتهم واشنطن بالرغبة في «الحفاظ على قدرات عسكرية لمحاربة حكومة الرئيس الأسد الشرعية». اتهمها كذلك باعتماد «مسار خطير وبأنها أمام مشكلة صعبة في التمييز بين المعارضين والإرهابيين الذين يحاولون تبديل تسمية بأخرى».

كما روسيا، كذلك تبدو إيران تبدو وهي تستعيد لحظات التوتر مع واشنطن. فإلى اعتراض السفن الأميركية في الخليج ومضيق هرمز، حذر مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي أميركا من رد قاسٍ وقال إن اميركا وبريطانيا لا تزالان عدوتي إيران اللدوتين مع إسرائيل مستبعداً التعاون مع الاميركيين في ضرب «داعش» أو غيرها.

لعل العدوان ـ المجزرة بحق الجيش العربي السوري في دير الزور قد كشف حقيقة التفكير العسكري الأميركي في هذه اللحظات. لا يمكن لواشنطن وتل أبيب وبعض الدول الإقليمية القبول باستعادة الأسد وحلفائه السيطرة على المدن الكبرى وأريافها بما فيها حلب. لم تكن مصادفة فعلاً أن يأتي هذا العدوان بعد التصعيد الإسرائيلي في جبهة الجنوب السوري. لكن العدوان سيسمح لبوتين والأسد وخامنئي و»حزب الله» بالتحرر من الكثير من قيود الاتفاقيات الأمنية والمضي سريعاً نحو عمل عسكري أوسع، خصوصاً إذا ما التزمت تركياً بما اتفقت عليه مع موسكو وطهران لجهة ضبط الحدود. انقرة تجاهر بهذا الالتزام. تتحدّث عن غارات جوية ضد «داعش». تكشف عن اعتقال أكثر من ٢٠٠٠ متسلل عبر الحدود، لكنها لا تزال تجاهر أيضاً بأن لا قبول بالأسد، ما يعني انه من الضروري جداً استغلال فترة «الضبابية» التركية وحاجة رجب طيب اردوغان الى منع قيام كيان كردي مستقل وتوتر علاقاته مع الغرب، لتسريع الخطوات العسكرية على الأرض.

ما هو المنتظَر؟

يدرك بوتين وحلفاؤه أن التفاهمات مع ادارة أوباما أفضل من الصراع. يأمل بأن يحصل من الإدارة الاميركية الحالية على تنازلات كبيرة حيال «النصرة» و»داعش» وغيرهما. يعمل على الفصل بين مستقبل «الرئيس الشرعي» لسوريا بشار الأسد وبين الملفات الأخرى المتعلقة بضرب الإرهاب وتعزيز دور الجيش السوري والحفاظ على المؤسسات.

لعل العدوان ـ المجزرة على الجيش السوري يسمح له الآن بالعمل على احتمالين: فاما الوصول الى اقتناع بأن الاتفاق العسكري قد انهار، وبالتالي يجب تكثيف وتسريع العملية العسكرية لإنهاء جبهة الشمال، أو ان ينجح في الحصول سياسياً وعسكرياً من الاميركيين المحرجين بالعدوان الآن، على ما يفيد خطته وحلفاءه بأقل خسائر ممكنة، على أساس ان أوباما لن يكون بعد هذا الاعتداء على الجيش السوري قادراً على المضي في خطوات مماثلة دون صدام مع الروس.

يجري حديث الآن عن استئناف المفاوضات السورية في منتصف الشهر المقبل. كانت المؤشرات الأولى تفيد بارتياح روسي للاتفاق مع الأميركيين. حصلت موسكو على تنازلات واضحة بالنسبة للجبهة العسكرية والتنظيمات المسلحة الموسومة بالإرهاب وحيال مستقبل الأسد. هذه التنازلات أقلقت دولاً إقليمية فأفسحت في المجال لزعيم «جبهة النصرة» سابقاً (فتح الشام حالياً) أبو محمد الجولاني بالظهور على قناة «الجزيرة» لاتهام موسكو وواشنطن والمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بـ «التواطؤ مع الأسد»، معتبراً ان هناك «مخططاً واضحاً لاستهداف الفصائل المسلحة»، وقال ان اهل السنة في سوريا «في حالة ضياع».. هذه ليست مقابلة عابرة في التوقيت والمضمون والوسيلة التي بثت عبرها.

كل ما تقدّم يعني أن بوتين وحلفاءه سيوظفون هذا العدوان الاميركي على الجيش السوري باتجاهات عدة، فإما أن ينجحوا في السياسة أو ان المعركة ستستعر وتكون متعددة الجبهات…

في لحظات كهذه، لا شك في أن الخطط الروسية والإيرانية لا تكون محصورة فقط بما سيقدمه أوباما، بل ربما يجري تفكير «احتياطي» أيضاً وربما خطوط مع مرشحي الرئاسة الأميركية لمعرفة ماذا يمكن أن يقدّمه كل منهما في أية تسوية مقبلة. لنتذكّر مثلاً أن إيران عرفت في ثمانينيات القرن الماضي كيف تستقبل وفدين فرنسيين متنافسين لمرشحي الرئاسة جاك شيراك وفرانسوا ميتران قبل الانتخابات الفرنسية بغية دراسة مع مَن تعقد صفقة إطلاق سراح الرهائن الفرنسيين في لبنان.

لا شك في أن «العدوان ـ المجزرة» على الجيش العربي السوري عنصر سلبي بكل جوانبه، لكن إيجابيته الوحيدة أنها تسمح لبوتين وحلفائه بحرية حركة عسكرية وسياسية أوسع في ما بقي من عهد أوباما. قرار استعادة الأرض أساسي في تفكير بوتين وحلفائه مهما كانت النتائج.