منذ 10 سنوات، صار سعد الحريري تحت المجهر.
ظُهْر 14 شباط 2005، وزّعت وكالة «فرانس برس» أوّل صورة لرجل يلبس جاكيت جلدية سوداء ويحمل هاتفه بوجه عابس وشعرٍ أسود منسدل على الكتفين، قالت الوكالة يومها إنّه الابن الثاني للرئيس الشهيد رفيق الحريري.
بعد ساعات قليلة تبدت صورة أخرى للشخص نفسه: رجلٌ يرتدي زيا رسميا بشعرٍ مصفّف يتفقّد مكان الانفجار قرب فندق «السان جورج» بعيون باكية تتأمل الزلزال، كما لو أنّها تبحث عن الشهداء هناك.
لم يسمع الجمهور صوت سعد. سمع فقط صوت شقيقه الأكبر صاحب مقولة «أيّها القوم» في اليوم الثالث على الانفجار، أي يوم تشييع الرئيس الحريري. الأولاد يحملون النعش باكين ويسيرون به مع آلاف الأشخاص، نحو مثواه الأخير في وسط العاصمة..
فتحت أبواب قصر قريطم أمام المعزين الآتين من كلّ حدبٍ وصوب. أولاد الشهيد جميعهم هنا، ولكن العيون شاخصة على الابن البكر: بهاء الدين الذي يستقبل ويودّع، وحتى أنّه يصرّح. ففي 7 نيسان أكّد بهاء الحريري لصحيفة «الرأي العام» الكويتيّة ضرورة إجراء الانتخابات النيابيّة. الجميع يومها حلّل: «الشيخ بهاء سيحمل الإرث السياسي الذي راكمه الرئيس الشهيد».
أكثر من 30 يوماً ولم يظهر فيها أولاد الحريري الذين طاروا إلى السعوديّة، حيث تقبّلوا التعازي في بلدهم الثاني. وما أن حطّ هؤلاء في «المملكة»، حتى كان وليد جنبلاط يستقبل في منزله نوّاب المعارضة للتحضير لـ «جلسة إسقاط» حكومة الرئيس عمر كرامي.
الكثير من الأحداث السياسيّة حصلت خلال شهرين كاملين كان فيهما آل الحريري خارج البلاد، أبرزها زحف سياسي إلى ساحة الشهداء في 14 آذار للردّ على تظاهرة «شكراً سوريا» يوم 8 آذار.
معادلات وتحالفات جديدة صيغت في آذار 2005، لم تكن تحتاج إلى أكثر من زعيمين: الأوّل، موجود وهو السيّد حسن نصر الله، فيما الثاني كان مفقوداً. فاقتنص «أبو تيمور» فرصة القيادة، ريثما يأتي «وليّ العهد الشرعي» من خلف الحدود ليتسّلم منه «الثمرة الناضجة».
..وأخيرا ظَهَر «الشيخ سعد»
فجأة يظهر الابن الثاني، سعد مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك في قصر الإليزيه، بعد أن اتّصل بالأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي أنان لشكره على صدور القرار 1595 (تشكيل لجنة تحقيق دوليّة).
وبعد يومين من «لقاء باريس»، كانت العائلة على موعد مع الاجتماع المصيري. طار بهاء فحطّ سعد مكانه. هواجس عائلية وحسابات سعوديّة أفضت إلى رمي عباءة «الشيخ رفيق» على الابن الثاني وليس البكر. حصل ذلك في 21 نيسان، حينما لم يعد سعد الحريري في مفهوم اللبنانيين مجرّد نجل ملياردير لبناني يدير شركات والده، ولا سيّما «سعودي أوجيه» منذ العام 1996. هذا لا يعني أنّ الجمهور فكّ صورة سعد عن رفيق، ولكنّه بدأ يستوعب تدريجياً أن «الشيخ الجديد» الآتي من عالم المال والأعمال هو «زعيمنا الجديد»، برغم أنّه غير مؤهّل لـ «المهمة الصعبة». لم يكن هذا انطباع الحلفاء وغير الحلفاء، فحسب، وإنّما كان اعتراف الحريري الأب حينما قال «بلسانه» في مقابلة تلفزيونية قبل استشهاده بأشهر قليلة أنّه لم يؤهّل أولاده للعمل السياسي.
ولذلك، كانت القيادات والأحزاب السياسيّة تريد أن تتلمّس «خامة الرجل الغريب»، إذ اكتفى سعد الحريري قبل استشهاد والده بزيارة بعض السياسيين بطلبٍ من والده، كزيارات عائليّة وللتعارف لا أكثر ولا أقلّ.
وبعد قرار العائلة، بدأ «الشيخ سعد» بخوض تجربته السياسيّة رسمياً. في 24 نيسان 2005 أعلن نيّته الترشّح عن مقعد بيروت مكان والده، من دون أن ينسى مبدأ المحافظة على التوازنات الداخليّة التي أرساها والده: سلاح «حزب الله» هو سلاح مقاومة لإسرائيل. قالها «مشروع النائب» عن العاصمة لمحطة «سي. أن. أن» ليسمع اللبنانيون صوت «القائد الجديد»، قبيل ساعات قليلة من ترجّله من طائرته الخاصّة التي حطّت في أميركا، حيث التقى هناك سيد البيت الأبيض ومسؤولين أميركيين آخرين.
سمع من الأميركيين ما يجب أن يسمعه وعاد إلى بيروت مدعوماً من الغرب، لتحضير ماكينته وجولاته الانتخابيّة في شوارع العاصمة. قد يكون سعد الحريري أراد بذلك إعادة «أيّام الشيخ رفيق» الذي كان يغادر موكبه ليسير على الأقدام في بعض شوارع بيروت، غير أن المقارنة في حينه لم تكن جائزة: شابٌ ثلاثيني يدخل غمار السياسة بعودٍ لم يشتدّ بعد، يختلف طبعاً عن رئيس حكومة محنّك.
المقارنة بين الأب والابن
وبالرغم من ذلك، كانت المقارنة بنسب الشعبيّة بين الأب والابن لا تحتاج إلى مقاييس علميّة. الصورة وحدها كافية لتؤكّد أن الشاب لم يكن ذات «عصاميّة شعبيّة»، وإنّما ورث جمهور والده الذي استطاع تثبيت مؤسساته التعليمية والاجتماعية في الحياة اليوميّة لأبناء بيروت وغيرها من المناطق. كان الكثير من اللبنانيين يرون أن صاحب العلاقات الدوليّة و «اللي عمّر واللي علّم» هو قامة سياسيّة واقتصاديّة لا تعوّض، ومع ذلك آمنوا بنجله الذي وعد «عالدرب نكمّل دربك».
ازداد الزخم الشعبي المستمد من «دم الرئيس الشهيد». عمليّة الاغتيال كانت وحدها كفيلة لكي يردّد الشارع السني، الذي شعر أنه مستهدف باستشهاد «دولة الرئيس»: «لعيونك يا شيخ سعد». كذلك، أضيف إلى «ترمومتر شعبيته» جمهور حاقن على السوريين وراهن أن مشروع «ثوّار الأرز» يمثّلهم، لاسيّما بعد تحقيق مطلب انسحاب القوات السوريّة من لبنان في ربيع 2005.
دخل «الشيخ سعد» إلى المعترك، وتسلّم الزعامة «على طبقٍ من ذهب»: «ثورة» تراكم المكاسب (استقالة الحكومة، انسحاب السوريين، اعتصامات شعبيّة..) لكنها بحاجة إلى منصب قائد ولو صوري، شرط أن يكون من «أولياء الدمّ».
إذاً، صار سعد الحريري زعيماً بعد خسارة وحيدة مني بها: خسارة والده. إلا أن هذا «اليتم» لم يتحوّل إلى «يتمٍ سياسي»، فالكثير من طلبات «التبني السياسي» تكدّست عند أبواب قريطم، حتى صارت له باقة من الآباء في كلّ مكان ولكلّ أبٍ وظيفة: والد سياسي، والد أمني… ممّن يكبرونه بالعمر والخبرة. الهمس في الأذن ـ وأيضا الاجتهاد ومعه الغرضية ـ كان يزداد: «هذا ما كان يريده والدك، وهذا ما كان يرفضه»!.
وعلى وقع الهمسات، بدأ الشاب يبلور شخصيّته السياسية، كتفاً إلى كتف مع الحلفاء، ثمّ مع أصحاب شعار «شكراً سوريا»!
وُلد «الرباعي».. دُفن «الرباعي»
لم يكن لـ «الشيخ سعد» حينها خصوم حقيقيون، عدوه الأول: قاتل أبيه. وبعيون مفتوحة، سار المرشح عن بيروت نحو الصناديق الانتخابيّة متأبطاً شعبية كبيرة وحصريّة تمثيل الشارع السني ومستندا الى «تحالف رباعي» مع «الثنائي الشيعي» (أمل وحزب الله) أفضى إلى أكثرية داخل مجلس النواب (11 نائباً في دائرة بعبدا – عاليه قلبت المعادلة) وسلطة داخل الحكومة. زهد «حزب الله» بالسلطة مقابل حماية سلاحه المقاوم. كلمة السرّ وقتها كانت: «الديموقراطية التوافقيّة» التي ولدت من رحم «زواج شرعي» اسمه «التحالف الرباعي».
بقي الحوار خارج الحكومة وتطبيقه داخلها ساري المفعول، بالرغم من اعتراض الحريري حينها على مرشّح «حزب الله» العميد حسين اللقيس كمدير عام للأمن العام. غضّ السيد نصرالله الطرف عن «الفيتو» المفاجئ (بقرار خارجي)، وأكمل مشوار «التحالف الرباعي» بتعيين اللواء وفيق جزيني خلفاً للواء جميل السيّد وسقط اللقيس كـ «أوّل ضحية» للاتفاق السياسي قيد الاختبار.
كان الحريري يعرف أنّ مسألة المحكمة الدوليّة قد تولّد انفجاراً في العلاقة مع «حزب الله» الذي يجدّد تحفّظه على مشروع مسوّدة المحكمة الدوليّة. القفز عن التحفّظات كان بتأليف لجنة لوضع الملاحظات على مسوّدة مشروع المحكمة الدوليّة.
لم ينتظر «وكيل» الحريري في مجلس الوزراء نتائج اللجنة، بل «أعدمها» على نار اغتيال الشهيد جبران تويني. قلب رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الطاولة على أصحاب «التحالف الرباعي» و «استدرج» بند «مشروع المحكمة» إلى مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال، ليس من أجل مناقشته، وإنّما للتصويت عليه.
رؤية السنيورة واجتهاده في قراءة «التحالف الرباعي» وتفرّده في السلطة، أدت في نهاية المطاف إلى اعتكاف وزراء أمل وحزب الله.
على عجل حطّ «الطباخون الثلاثة»: الحاج حسين الخليل والوزير علي حسن خليل والمستشار الزميل مصطفى ناصر في قصر آل الحريري في الرياض، حيث صاغوا «اتفاق الرياض». وظيفة هذا الاتفاق كانت واضحة: ترميم العلاقة بين «المستقبل» و «حزب الله» و «أمل» وتنقيح «التحالف الرباعي».
السنيورة.. «الوصي الشرعي»
ولكنّ مداولات الأيّام الثلاثة العجاف في الرياض كانت حبراً على ورق شطبها السنيورة بـ «شحطة قلم» في السرايا الحكومي، قائلاً للخليلين بحضور مصطفى ناصر: «بيّ بيّو لسعد الحريري ما بخليني امشي باتفاق قاهرة جديد».
عاد «حزب الله» بحواره مع «المستقبل» صفر اليدين: سقط «اتفاق الرياض» ومن خلفه «التحالف الرباعي» بـ «ضربة الفؤاد القاضية» المنسقة بكل تفاصيلها مع وليد جنبلاط (ردا على استبعاده) ومن خلفهم جميعا سفير واشنطن في لبنان جيفري فيلتمان.
كانت النتيجة المباشرة لدفن «التحالف الرباعي»، ممارسة السنيورة تفردّه بالسلطة، وأبعد من عدم قبول سعد الضمني بتصرفات «الوصيّ» أو «الوكيل»، فانه كان عاجزاً عن «كبح جماح» السنيورة الذي ازدادت شعبيّته داخل الشارع السني بعد اعتكاف الوزراء الشيعة، وصار «أخطبوطاً» في مدّ أذرعته إلى مراكز القرار الدولي، من دون الحاجة إلى مراجعة «ولي الدم» أو «ولي الأمر».
ارتأى الحريري أن يتعايش مع السنيورة ويعلن اعتذاره بالفم الملآن (حديث لصحيفة الشرق الأوسط وقناة العربيّة) عن عدم قدرته بوفائه بالتزاماته السياسية. لم يعد هذا الاعتذار المياه إلى مجاريها بين «حزب الله» و «المستقبل» ولا أعاد الثقة التي انخفض منسوبها.
سنة كاملة وأكثر على دخول الحريري إلى المعترك السياسي، استطاع خلالها الحلفاء والخصوم أن يكتبوا بالشواهد والتواريخ «بروفيل» ابن الشهيد وتأثير فريق عمله عليه أكثر من تأثرهم به. شوكة «آبائه الافتراضيين» والأكبر منه خبرةً وسناً، اشتدّ عودها وصارت هي «الحُكم والحَكم» على حساب «الأمر لي». وضاعت شخصيّة نجل «الرئيس الشهيد» داخل عباءات حاضنيه داخلياً وخارجياً.
من «حرب تموز» إلى 7 أيّار
لم يكن ينقص انخفاض الثقة بين «المستقبل» و «حزب الله» سوى عدوان تموز 2006. فقد بالغ الحريري وفريقه حينذاك في مهاجمة «حزب الله» والمطالبة بعزله. ربّما ليس في ذلك عتب على الحريري الذي سمع من عواصم القرار أنّ حرب تموز ستكون بمثابة الضربة القاضية لـ «حزب الله» وساعده في ذلك أيضاً «المصادر السعودية» التي صرّحت في بداية حرب تموز منتقدةً «حزب الله» واتهمته بانه «مغامر».
ظنّ «الشيخ سعد» أنّ ما سمعه بأنّ الغزو والقذائف سيكونان «أصدق إنباء» من الاتفاقات، ستخفّف عن كاهله عبء تنفيذ الاتفاقات.
انتهت «حرب تموز» بعكس ما توقع كثيرون. لم يصرف «حزب الله» نصره داخل البيت السياسيّ اللبناني بعكس ما كان يرغب معظم الحلفاء ولا سيما حليفه المستجد ميشال عون، وإنما عمل على «ضبط علاقاته». الثقة بينه وبين الحريري اختفت في «كومة قشّ سياسية» من «التحالف الرباعي» حتى «حرب تموز»، وصارت الخصومة أشبه بالمعاداة وحملات تخوين.
الجميع استلّ سيفه وحارب من تحت الطاولة بالقفازات، على وقع الاعتصامات المفتوحة في الشوارع والسلاح الظاهر وشركات الأمن بـ100 دولار شهرياً للشخص.
لم تدم «الحرب الباردة» طويلاً، فكانت قرارات 5 أيّار هي «الرمّانة» حينما قرّرت «حكومة السنيورة البتراء»، على حدّ تعبير الرئيس نبيه بري، إقالة العميد وفيق شقير من موقعه على رأس جهاز أمن المطار واعتبار «شبكة الاتصالات الهاتفيّة التي أقامها «حزب الله» غير شرعيّة» واتخاذ قرار بفكها وملاحقة أصحابها!.
في 7 أيّار 2008، تمكن «حزب الله» من وضع يده على بيروت في ساعات قليلة، موجّهاً الرسالة إلى من يعنيهم الأمر. فيما سقط سليم دياب وآخرون في قفص الحريري الاتهامي على خلفية هدر أموال من دون طائل، ومن ثم انقلاب جنبلاط على حلفائه وكان لافتا للنظر عدم انصات سيد قريطم الجديد الى نصائح السفراء والقناصل وبينهم المصريون بأن أية مغامرة بمواجهة «حزب الله» عسكريا سترتد عليكم في غضون 24 ســاعة!