جريمة قتل جديدة: نواب وقُضاة يغطّون المجرمين
عرفت طرابلس خلال تاريخها الطويل قبل وخلال وبعد الحرب الأهلية ظاهرة الزعران والمجموعات التي كانت تستفيد من ضعف الدولة أو غيابها وتقوى مع غياب العدالة وطغيان الحرمان المزمن وتغطية الساسة لممارسات تلك المجموعات وصرف نفوذهم لحمايتهم.
اليوم، تعاني الفيحاء من غياب الدولة، ولولا جهود الجيش اللبناني وخاصة مديرية المخابرات، لأصبحت نهباً لكلّ أنواع الفوضى، في ظلّ اختفاء بقية الأجهزة الأمنية المعنية بالأمن الداخلي وإصرار بعض النواب على حماية المجرمين.
كانت آخر فصول الإجرام والفلتان والفوضى الجريمة التي ارتكبها المدعو محمد الحموي (السماك) بقتله الشاب العامل في مؤسسات ومراكز «جمعية المنج الخيرية» محمود عبد القادر عاصي (أبو جعفر) بسبب منعه من الاستمرار في التشبيح على هذه المؤسسات التي كان يدخلها عنوة ويسيء إلى موظفيها والعاملين فيها ويفرض الخوات، إلى أن وقعت الواقعة وقام السماك بإطلاق النار فقتل عاصي على الملأ بعد سلسلة طويلة من عدوانٍ طويل، الأمر الذي يدفعنا إلى الإضاءة على تفاقم هذه الظاهرة وتفرّعها إلى أعمال السلب وإطلاق النار وسائر أشكال الفوضى التي يعانيها أبناء طرابلس.
من الذي ينتج ظاهرة التشبيح؟
عناصرُ ثلاثة تساعد على استشراء العنف والفوضى في طرابلس ولا يمكن بدون معالجتها الوصول إلى الحلول المطلوبة، وهي:
– ضعف المناعة الاجتماعية في وجه الشبيحة والزعران الذين عادوا إلى فرض الخوات على المؤسسات والمحالّ التجارية والمطاعم وغيرها، وخضوع عدد من أصحاب هذه المصالح للشبيحة والقبول بدفع الأتاوات لهم، بينما ينبغي عليهم، حتى في غياب الدولة أن يرفضوا ذلك ويتصرّفوا على أساس تأمين الحماية لأنفسهم على قاعدة الدفاع المشروع عن النفس والعرض والمال، وهذا ما فعله عدد من أصحاب المؤسسات الذين تصدّوا لهؤلاء الشبيحة ولقّنوهم الدرس المناسب.
خطورة الاستسلام للبلطجية واستسهال دفع المال لهم تكمن في أنّها تؤدي إلى قيام «منظومة تشبيح» بحيث تمتدّ إلى غير الدافعين لتتوسّع ويحصل التطبيع معها ويتحوّل الشبيحة إلى «وجهاء» كما سبق أن حصل مع محتلي الأملاك العامة والخاصة ومع من يسمون «قادة المحاور» خلال جولات الاشتباك بين مسلحين من التبانة وآخرين من جبل محسن.
البشع في هذا المجال أنّ أحد ملّاك العقارات التي كان يحتلها محمد السماك أصرّ أن يدفع له الخوّة حتى بعد القبض عليه من قبل الجيش وهو قابع في السجن، وهذا من أعجب ما يمكن أن يحصل من انهيار في الكرامة!
– الحماية السياسية للزعران: لا يزال نواب محسوبون على الممانعة وآخرون معروفون بأنّهم مختصون بحماية الشبيحة، يلقون بأثقالهم لدى بعض القضاء لتأمين الحماية لهؤلاء المجرمين، حتى أنّ أحدهم خصّص شققاً لإيواء المطلوبين ومحامين للتدخّل والتوسط لصالحهم، وكان من «ثمار» هذا النائب قيام المدعو محمد الحموي (السماك) بقتل الشاب المرحوم محمود عاصي العامل في مؤسسات جمعية المنهج الخيرية.
– أمّا ثالثة الأثافي: فهي عجز أو تجاهل قوى الأمن الداخلي لما يجري في المدينة، وخاصة في مجال المخالفات وفرض الخوات، فهناك زعران يحتلون أماكن معروفة ويبنون عليها مخالفات بائنة، ورغم ذلك لم تتحرّك دوريات قوى الأمن لقمعها حتى باتت الكثير من الأسئلة تُطرح عن الأسباب والخلفيات، وكان من أبشع وجوه هذا الإهمال ترك المدعو محمد الحموي (السماك) على راحته فبنى بيتاً على الأملاك العامة واحتلّ سلسلة عقارات واستثمرها من دون أن يلقى أيّ مقاومة.
السلوك نفسه تمارسه شرطة بلدية طربلس ورئيسها، بالوتيرة نفسها من التخلّي، فهي دائمة الغياب عن القيام بواجباتها وحتى عن مواكبة الجيش اللبناني إلّا بعد جهدٍ جهيد.. وهذا أدّى ويؤدي إلى تفاقم ظاهرة الفوضى الأمنية في المدينة.
لقد تصدّى محمود عاصي لتشبيح محمد السماك ورفض الخضوع لابتزازه المتواصل فكان تصدّيه باسم كلّ الذين تعرّضوا للأذى من قبل هذا القاتل الذي لم يكن وحده في جرائمه فهو تمكّن من الاستمرار في التشبيح ردحاً من الزمن من دون أن يردعه رادع، وهو الذي كان يحتلّ الأراضي على ضفتي نهر أبو علي ويقوم بتأجيرها باسم أصحابها ويتقاضى الأموال عنها، ويفرض الخوات على المؤسسات والمحالّ التجارية ويمارس «هوايته» في التهديد والنصب والتشبيح، من دون أن يتحرّك أحد لوقف جرائمه وتوقيفه، وإذا حصل وأُوقِفَ كانت تدخّلات نائب الشبيحة لدى بعض القضاء كفيلة بإطلاق سراحه ليعود سيرته في العدوان على الناس.
هل المطلوب، في ظلّ هذا التفلّت والفوضى أن يلجأ الناس إلى الحماية الذاتية، وكيف يصحّ أن يتمتّع الزعران بحصانات بعض النواب وبعض الأمن وبعض القضاء؟
هل كان يجب أن يقتل المجرم السماك الشهيد المظلوم محمود عاصي ليجري توقيفه وهو صاحب السجلّ الأسود المستمرّ في التشبيح والاعتداء على الناس وأملاكهم؟
من كان يحمي هذا المجرم طيلة الفترة الماضية.. ومن كان يتغاضى عن مخالفاته، ولماذا بقي المنزل الذي اشاده السماك قائماً ولم تتحرّك قوى الأمن الداخلي وبلدية طرابلس لهدمه، حتى هدمه الجيش بعد ارتكابه جريمة قتل المرحوم محمود عاصي؟!
أين هو دور قوى الأمن الداخلي، وما هو دور شرطة بلدية طرابلس الملتبس والمثير للاستغراب والتساؤل، وهل يُعقـَلُ أنّهم لم يكونوا على علم بارتكاباته؟.. وهذه مصيبة وإن كانوا على علم فالمصيبة أعظم!
الدور الحقيقي المطلوب للقوى الأمنية
لقد أوصل المعنيون بالأمن وخاصة الأمن الداخلي وشرطة بلدية طرابلس وبعض القضاء الأعوج، الناسَ إلى اليأس من جدوى اللجوء إلى القانون فكانوا يكتفون بابتلاع الإساءات وبدفع الخوات حتى لا يحصل ما هو أسوأ وقد حصل بوقوع جريمة القتل التي لا يمكن فهمُها إلّا في إطار أنّ هذا المجرم كان محمياً، وكانت له علاقات حماية بنواب وضباط يعرفون أنفسهم ولا ندري إن كانوا يشعرون بشيء من الندم بعد أن أدّى سلوكهم.
لقد أثبتت الأجهزة الأمنية أنّها عندما تريد تفعل ولا أحد يستطيع الوقوف في طريقها، وهي نفسها الأجهزة التي تدير ظهرها وتترك الفوضى تتسرّب إلى المجتمع فيطغى اللصوص والمخرّبون، ويأخذ المتطرّفون راحتهم لينفذوا «فقه الاحتطاب» الذي يبيحون بموجبه لأنفسهم سلب أموال وممتلكات «المجتمع المرتدّ».
الجيش عمود الاستقرار
يوماً بعد يوم تزداد القناعة بأنّ طرابلس منقسمة بين تحالف الزعران من نواب وأمنيين داخل المؤسسات البلدية وغيرها، وبين أهل الحق المتناثرين الذين يأخذهم الأشرار بالاستفراد واستغلال الفراغات الأمنية والقضائية، وعلى أهل هذه المدينة أن يدركوا الحقائق الآتية:
– أنّه لن تكون هناك نهضة للدولة في القريب والمدى المنظور بحيث يعود البلد إلى حالته الطبيعية مع ما لتحلّل الدولة من تداعيات. وهذا يستدعي التفكير الجَماعي والمؤسساتي بضرورة.
– هناك حاجة إلى المصارحة حول دور القوى الأمنية وترك المكابرة والشعارات. فمن الواضح أنّ قوى الأمن الداخلي لم تعد تستطيع أداء واجباتها بسبب نقص الإمكانات بشكل عطّل الكثير من مهماتها، وهذا يستدعي طرح إمكانية الشراكة مع القطاع الخاص في توفير ما يلزم لها للقيام بواجبها الأمني والاجتماعي في المدينة، تماماً كما يفعل النواب تجاه عناصر الحماية المفروزين معهم، حيث بات معتاداً أن يدفع النواب وكلّ الذين يحقّ لهم الحصول على المواكبة الأمنية الرسمية مساعدات مالية لهؤلاء العناصر.
– أنّ الجيش اللبناني هو العمود الفقري للأمن والاستقرار في لبنان وخاصة في طرابلس وهو حليف الأغلبية الصالحة من المواطنين الذين يحتاجون إلى إعادة التفكير في طرق عملهم وأهمية التماسك وتجاوز الحساسيات الضيقة لتأمين صمودهم وبقائهم، لأنّ الوضع إذا استمرّ على هذا النحو سيكون المستقبل قاتماً.