IMLebanon

ذبذبات طرابلس ستُصيب كل لبنان… و”الجوعان غضبان”!

 

الثورة المتجدّدة انطلقت

 

“الرجل الجوعان رجل غضبان”. هو مثلٌ إنكليزي يفهمه اللبناني ويُطبقه الطرابلسي والبيروتي والصيداوي والزحلاوي والزغرتاوي والبشراوي، وكل لبناني حظه أن يولد هنا ويكبر هنا. لكن، أن تندلع ثورة الجياع، بجزئها الجديد، من طرابلس يطرح السؤال: لماذا ذبذبات طرابلس بهذه القوة؟ لماذا تنجح هذه المدينة الجميلة جغرافياً في تصدير ذبذبات إيجابية حيناً وسلبية أحياناً، أكثر من أي مدينة أو بلدة أو حيّ أو نطاق؟

 

ليست طرابلس وحدها ثائرة أو جائعة، لكن شرارة الثورة “المتجددة” انطلقت من طرابلس ثم ما لبث أن استعر الغضب، في كل مكان، كما كرة الثلج. فهل يفترض بنا أن نُعَنون الجولة الجديدة باسم “ثورة طرابلس”؟ وهل لعاصمة الشمال، التي تُوجت منذ انتفاضة 17 تشرين “عروسة”، خصوصية تؤهلها لتكون “العرابة” لكل المدائن؟

 

كلّ الأحزاب والتيارات والحركات تحاول أن تسحب بساط “ثورة الجياع” الطرابلسية من تحت أقدام الآخرين وتبني الحراك، لكن “الطرابلسيين” وحدهم يعرفون أن مدينتهم تختلف عن سواها كون لا مدينة أخرى في لبنان، من أقصاه الى أقصاه، تضم 700 ألف نسمة، حتى العاصمة بيروت، بحسب أستاذ فلسفة درس تفاصيل المدينة وأبعادها وكتب عنها بدل الكتاب كتباً، ليست بعدد سكانها كما طرابلس، كونها تتفرع الى غربية وشرقية وضاحية جنوبية، أما طرابلس فقادرة بعدد سكانها، وهو ما لا ينتبه إليه كثيرون، الى إفراز حركات متنوعة كثيرة. لطرابلس خصوصيتها من حيث الحجم والعدد كونها تضم أطيافاً مختلفة من كل الطبقات، أغنياء وفقراء، ومن الطائفتين الإسلامية والمسيحية. هذه المدينة أُهمِلت طويلاً. صحيح أن عكار أهملت أيضاً، لكن الأخيرة تضم قرى وبلدات تشهد تضامناً وتضافراً في ما بين مكوناتها أما المدن، كما مدينة طرابلس، فالفقير فيها يتألم وحده ويضيع بين الفقراء والجماعة. وهذا الجانب الخطير لا يلحظه أحد.

 

هل دخلنا أتون النار؟

قليلون من انتبهوا منذ زمن بعيد، منذ جولات جبل محسن وباب التبانة، وما قبلها وما تلاها، إلى خصوصية طرابلس التي جعلتها البوصلة في محطات كثيرة. قليلون انتبهوا الى أن تلك المدينة البائسة تضم فقراء جداً وأغنياء جداً، وتضم سبعة نواب في حين تضم عاصمة الجنوب صيدا نائبين فقط. وهناك خمسة نواب فقط لا غير في كل كسروان ساحلاً وجبلاً. هذا معناه أن طرابلس “المهملة” ليست، برأي الخبراء، “حبة واثنتين”.

ليس هذا كلّ شيء. فلطرابلس باع طويل مع الدولة اللبنانية، منذ إعلان لبنان الكبير، وهي التي طالما شكلت حالة إعتراضية عند مفترق خيارات كبرى وعادت وغطت، عند مفترقات أخرى، في سبات ثقيل ظنّه البعض سرمدياً ثم عادت واستفاقت اليوم مشكّلة علامةً فارقة.

 

منذ يومين، في الثامن والعشرين من نيسان (كما في السابع عشر من تشرين)، تريثت الشخصيات الطرابلسية النافذة في التعليق عن “أجواء الغضب” في المدينة. وماذا قد يقولون؟ وبماذا قد يجيبون الجائعين؟ ماذا يقول أستاذ الفلسفة؟

 

الجوع حقيقي وقد “ضرب أطنابه” في طرابلس وفي سواها. والمدينة التي عاشت تحت كنف نفوذ رشيد كرامي، ذات زمن، وعادت ورزحت تحت نفوذ تيارات وأحزاب وحركات إسلامية أعطوها صفة “مدينة المسلمين”، عادت وبرزت في السابع عشر من تشرين كمدينة للسلام، فهل خصوصية طرابلس تجعلها طيّعة، قادرة أن تتلون، أكثر من سواها؟ هل هذه الخصوصية تجعل مدينة السلام قادرة أن تتحول الى مدينة الغضب العارم وأن تنشر عدواها في كل مكان؟

 

الثابت لمن يعرفون طبيعة المدينة، وطبيعة سكانها، أن أي مشهد يتراءى فيها لا يعبّر بالضرورة عن كل سكان العاصمة الشمالية، بدليل أن رفع شعار طرابلس قلعة المسلمين ليس معناه أن ليس في المدينة من مسيحيين، واستخدام بعض الشباب، في انتفاضتهم، القوة والحجارة ليس معناه أن كل الطرابلسيين يؤيدون استخدام العنف. لكن ما لا ريب فيه أن للمدينة تأثيرها على كل الآخرين وقادرة أن تكون المحرك للآخرين، من دون أن يكون أولاد المدينة يقصدون أن يكونوا كذلك. أن تتحرك مدينة بحجم طرابلس، بحجم حراك مدينة بيروت، وفي بعض الأحيان يضاهيه. لهذا يكثر الكلام في كل مرة تبرز فيها طرابلس على “سكة” التطورات، عن وجود أجهزة تنغل في تفاصيل المدينة. فطرابلس مدينة، بعدد سكانها وأطيافها وإنتماءاتها، طيّعة، تتأثر، وصراع الأجهزة، بحسب عارفي المدينة، هو من جعل طرابلس تظهر ذات يوم مدينة الإرهاب.

 

رئيس أبرشية طرابلس المارونية المطران جورج أبو جودة الشاهد على “غضب الطرابلسيين”، مسيحيين ومسلمين، يشير الى خصوصية هذه المدينة التي جعلت السكان، على اختلاف طوائفهم ومللهم، يفتحون الصدر والقلب الى بعضهم البعض “والغضب العارم اليوم يتشارك فيه الجميع. والجوع لا يميز بين إنسان وإنسان”.

 

الجوع لا يميز لكن “الوسيلة” قد تتميز. فهناك من فقدوا ثقتهم بجدوى المطالبة السلمية، لكن هناك من لا يزالون يثقون أن سيادة القوة معناها فقدان العقل.

 

في كل حال، عدد الموارنة في طرابلس قليل. نحو خمسة آلاف نسمة على لوائح الشطب، أتوا من حصرون وإهدن وحدشيت وبنوا مصالح لهم في المدينة، لكن مجموع المسيحيين ككل يزيد عن 35 في المئة من مجموع عدد أهالي طرابلس وثلثهم من المسيحيين الأرثوذكس. ويوم أتى إرهابيون ونفذوا تعديات على المسيحيين وقتلوا واعتقلوا وأهانوا، نزح كثيرون. كانت حقبة، لكن طرابلس، منذ انتهاء الحرب، عادت الى أهلها وعاد أهلها إليها وعاد يطوف الصليب في الشوارع خلال الأعياد. الطرابلسيون الحقيقيون يدخلون الكنائس ويتضرعون الى رب السماء ويلفظون احتضان أي أفكار تطرّف. وهذه من خصوصيات طرابلس.

 

غريبة ٌ فعلاً هذه المدينة التي نراها حيناً في قبضة الإرهاب ونسمع عنها حيناً آخر أنها في قمة الإنفتاح على الآخر. غريبة حقاً هذه المدينة التي نرى فيها أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء. غريبة ٌ حقاً هذه العروس التي نراها ثائرة تنشد للوطن حيناً ونشاهدها ترشق الحجارة والنيران حيناً آخر باسم الثورة. هو الغضب الذي يجعل البشر يخرجون عن طورهم؟ ربما، لكن الأكيد أن لطرابلس قدرة على إرسال ذبذباتها في كل الإتجاهات.

 

أهل المدينة يعلقون على أبوابها جنب صور القديسين وكلمة “الله” عبارة: طرابلس لك في القلب حب لا يعلمه إلا الله. وهم يجزمون أن ثورتهم اليوم هي عابرة للطوائف. لأنهم أيقنوا أن أي منطقة تشبه طرابلس لا تحيا ولا تنتعش إلا إذا شهدت تفاعلاً من الطرفين المسيحي والإسلامي. واليوم “ثورة الجياع” تضم المسيحي والمسلم والكبير والصغير والأصولي والملحد، وكل إنسان ضمته هذه المدينة ذات يوم في فلكها، وهي التي لم تلفظ إنساناً ولا حركات وكل من فيها لا يعتبر “غريباً” أبداً، فمدينة بحجمها تستوعب الآتي إليها بعكس مدن أصغر منها بكثير.

 

مرة جديدة تتقدم طرابلس في مشهدية الثورة، بطبعتِها الجديدة، لكن يبدو أن الواقفين اليوم في صفوف الثورة الأمامية هم من فقدوا الأمل بأن الشموع والاناشيد قادرة على فعل فعلها، ويثقون أكثر بقوة الحجارة والنيران. فهل هذا إيذان بأن المدينة قادرة على أن تكون النواة الجديدة في بعث ثورة دموية؟

 

فواز السمان الذي بدّل، قبيل أيام من استشهاده في أول يوم من أيام الثورة المتجددة “ثورة الجياع”، بروفايل صفحته الفيسبوكية بآية مضمونها: قُل لن يصيبَنا إلا ما كتبَ الله لنا هو مَولانا وعلى الله فَليتوكَّلِ المؤمنون. هو اتّكل وتوكّل واستشهد مظلوماً. طرابلس أعطت الشهيد الأول في الجزء الثاني من ثورة الشعب اللبناني. فهل نحن قد دخلنا من بوابة طرابلس “الدهليز” الذي له أول وليس له، في المدى المنظور، آخر؟