المهم أن الناس خرجت وأَعلت صوتها، لا يهمّ السبب الذي أخرجهم إلى الساحات، ذلك أن قلوبهم مليئة بالأحزان والغضب والحرمان لدرجة أنّ أيّ شيء، أيّ شيء، يكفي ليكون سبباً للخروج
لم تنل مدينة أو منطقة أو بلدة لبنانية مشاركة في الحراك الشعبي المستمر منذ 17 تشرين أول 2019، من التنويه والإشادة الممزوجين بالاستغراب والدهشة، ما نالتهُ مدينة طرابلس، وتحديداً مشهدية ساحة النور، التي انهالت عليها فجأة، ومن دون تخطيط مسبق، أوصاف التغزّل والمديح والإشادة بوطنيتها! وجمالها! وانفتاح أهلها! بما يشبه التسليم المسبق اللاشعوري بأن هذه المدينة كانت مصابةً بشيء ما، في لبنانيتها وانتمائها، يستحيل شفاؤه أو الخروج منه!
وفي الاتهام – القالب، ما يشبه الصوابَ المقرون بالغَرَضية، ذلك أن المدينة رُميت لسنوات ومن دون إرادة أهلها وشبابها، بثقبٍ أسودَ لامتناهي من جدليات عقيمة، وصراعات عبثية، غيّبت مشاركتها الوطنية، وابداعها الفني والثقافي، ومجالها الحيوي والإنمائي والخدماتي، وكلّ ذلك يناقض تاريخها الثريّ جداً، لمصلحة سوداوية مقيتة بدت وكأنها نتاج تحالف حاقد بين طبقة سياسية لا تدين بوجودها في جنة السلطة للشرعية الشعبية من جهة، وتنظيمات ومجموعات وتوليفات تدّعي التدين وتمارس كل ما يسيء للدين وللوطن ولطرابلس من جهة ثانية، وكأنها تنفّذ أجندة أكثر الحاقدين على المدينة وناسها! ممارساتٌ وظواهر ومكونات أخرجت جزءاً من المجتمع الطرابلسي منذ مطلع الثمانينات عن وسطيته المعهودة، وحيويته الفاعلة، ومنظومة قيمه المستقرة، لمصلحة صورةٍ جرى تنميطها برعونةٍ وعبثية.
المهم أن الناسَ خرجت، وأَعلت صوتها، وعبّرت عن رفضها التمادي في الظلم والاتهام والتهميش.. لا يهمّ السبب الذي أخرج هؤلاء الى الساحات، ذلك أن قلوبهم مليئة بالأحزان والغضب والحرمان لدرجة أنّ أيّ شيء، أيّ شيء، يكفي ليكون سبباً للخروج. خرجت الناس فقدّمت موقفاً سياسياً، وقدمت مشهداً حضارياً، وقدمت صورة مشرقة، وقدمت يداً ممدودة، وقدمت فناً للثورة والثائرين تفاعل مع نبض المدينة ومع صرخة الأطراف، وبهذا المعنى كانت طرابلس، كقلعتها وأسواقها وخاناتها وزيتونها وشواطئها، رَجعُ صدىً للعاصمة والمدن والمناطق كلها.
انقلاب الصورة
مؤسف، لكنه ضروري، القول بأن جمال الصورة التي تغنى بها الجميع، سرعان ما تتبدل شيئاً فشيئاً كلما ابتعدنا عن الساحة.. هناك في أحياء وأزقة المدينة صورة موجعة، غارقة في الأحزان حيث البؤس والفقر والبطالة والتسرّب المدرسي وغياب الخدمات وانعدام الفرص والزبائنية التي خنقت المدينة وانتهكت إنسانية الإنسان فيها بصَلَفٍ وجبروت. وفي كل ذلك تعبير صادق عن ارتكاس الإنماء بسبب الذهنية الحاكمة والكيديات السياسية، باستثناء تجارب أهلية عملت بدأبٍ على سدّ النقص. لم تكتف الكيدية بالتهميش والحرمان وتحويل المدينة لساحة صراعات وصندوق رسائل، ليس هذا فحسب فمخيلة الشرّ أكبر، ومن أمثلة ذلك تفجير المسجدين (2013)، ليس كحدث مستنكر فحسب، بل لتفكيك دلالاته السياسية والأمنية.
في 23 آب 2013، وقعت في طرابلس مجزرة مكتملة الأوصاف، شكلاً ونتائج وتداعيات. يوم روّع المدينة تفجيران إرهابيان استهدفا مسجدي «السلام» و»التقوى»، وأوقعا 45 شهيداً ومئات الجرحى. كان يمكن لتلك الجريمة أن تعيد انتاج حرب أهلية، تماماً كما كان يمكن أن يكون رقم ضحاياها مضاعفاً في مدينة تشكّل صلاة الجمعة جزءاً رئيساً من صورتها وحياتها وتقاليدها، فتزدحم المساجد حتى تفيض، وهو أمر بدا أن العقل المجرم الذي خطط للتفجيرين يدركه تماماً، لكن العناية الإلهية لم تحقق له ما أراد.
فخّ استعادة الحرب
كان مخططاً لتفجير المسجدين أن يجر المدينة لأهوال كبيرة، فجريمة من هذا النوع والوزن، ونظراً لتداخل الاعتبارين الأمني والديني، كان يمكنها ببساطة إعادة إدخال البلد بأكمله في أزمة كبرى، لولا حكمة عقلاء استوعبوا غضب الغاضبين ومنعوا ردود الفعل، وأعلنوا التمسك بالدولة.. لكن الدولة نفسها تصرّ على لعب دور الصنم، فتعير أذناً صماء لقضايا وتمدّ اليد الغليظة لقضايا أخرى.
طرابلس ما كانت يوماً، في أهلها ومزاجها وثقافتها وبيئاتها الأصيلة، بيئة للإرهاب أو الرفض أو الانفصال، بل حاضنة للوسطية وللعروبة ومنشدّة للقضايا الوطنية والقومية، وواحة للسكينة والتقوى، لكنّ عَبَثاً كثيراً ومبالغاً به أدى إلى تحميلها تبعات سياسية واقتصادية وأمنية أرهقتها وأرهقت نسيجها، فغابت الدولة بوصفها مسؤولة عن التنمية المتوازنة، وحضرت جولات العنف العبثية بين بعض مناطقها، وظهر الانخراط المبالغ به في الأزمة السورية، والذي حصدت المدينة نتائجه المأساوية ومن بينها تفجير المسجدين، كما ظهر تهور المتحمسين أو المشبوهين الذين يقولون أشياء باسم الاسلام أو أهل السُنة، لا دخل ولا أثر لا للعقل أو للدين أو مقتضيات العمل السياسي بها.
واللوثة الأخيرة ليست حكراً على طرابلس فحسب، فمدن وقرى لبنانية عدة رزحت بعد العام 2008 تحت أَسر مقصلة الاتهام بالارهاب ورعاية التطرف والسياسات الشعبوية والكيديات وجرى تدفيعها وتدفيع مكونها الاجتماعي أثماناً مكلفة لدرجة اختلال التوازن الوطني وإيصال المكوّن السني في لبنان إلى الشعور بالإنكسار. في اللحظة التي انصرف فيها جميع الأطراف في لبنان بعد العام 2015 للاهتمام بحسابات الربح والخسارة وتجنب اللهيب الذي يضرب الإقليم كان في هذه المدن والقرى يخرج شباب وشيوخ وبسطاء، ومدسوسين أيضاً، ليحملوا رايات ليست لهم، ويرفعوا شعارات ليست شعاراتهم، ويمضوا باتجاه العنف والعنف المضاد ظناً منهم أنهم يخيفون هذا الطرف أو ذاك، أو هذا النظام الاقليمي أو ذاك، بينما هم في الواقع بيادق لعبة أكبر، ويعطون بثورانهم هذا كل التبريرات والذرائع للمتربصين بهم وبمدنهم ومناطقهم من خصوم الداخل والخارج هذه هي باختصار مشكلة طرابلس وصيدا وعرسال والضنية وعكار وغيرها (وله حديث آخر).
أفقٌ مفتوح لكن بشروط
كلّ ما سبق يقودنا إلى سؤال ثمّ ماذا، وماذا بعد؟
بالرغم من المشهد الضبابي الجاثم، والمخاوف السياسية والأمنية والاقتصادية والحياتية والمعيشية التي تهدد لبنان بأكمله، وبالرغم من عدم تأطير الانتفاضة الشعبية بهيكليات ومطالب وبرامج محددة، ثمة ما هو مطلوب وضروري وعاجل.
من الضروري، في إطار قراءة الثورة، وفي قلبها طرابلس وساحتها، إعادة الاعتبار للمدينة، كعاصمة ثانية للوطن مكتلمة الحضور والإمكانات، وإعادة إحياء مجالها الحيوي كعاصمة للاقتصاد والتبادل التجاري والتنموي والصناعي والخدمي، ولا بدّ من عودة الدولة إليها (وليس عودتها للدولة) بكل تجلياتها، وخصوصاً في الإدارة العامة والمناصب العليا وليس التعامل الأمني الفظّ فحسب، وهذه العودة حقّ وواجب، لطرابلس ومحيطها أيضاً.
المطلوب أيضاً انتاج قيادات من رحم هذا المزاج، تواكب وتبتكر وتستعيد وتطالب وتحاور وتملء المشهد حضوراً وفعالية، والظن، أغلب الظنّ، أن المجتمع الطرابلسي قادر وثمة تجارب تعكس عزماً على التحسين، وفيه من الكفاءات ما يضاهي المدينة أَلَقاً ومَكانة.. ولا خيار آخر.
التاريخ يُصنع. أحياناً يُستعاد ولو بظروف وحيثيات مختلفة، من العدم أو اللاشيء، هكذا يكون التهميش والاتهام والفقر والبطالة والتسرّب المدرسي والتفكك وغيرها ليست أقدراً لا تردّ، فالشعوب الحرّة لا بدّ وأن تستيقظ، وتخرج معليه صوتها، لتأخذ حقها وتعيد، أو تستعيد، كتابة تاريخها.. وهو ما يحصل في ساحات لبنان، من بيروت إلى صيدا فبعلبك وصور، وفي قلب المشهد وعينه في ساحة النور أو قُل نور الساحات جميعاً.
طرابلس، كما كانت وكما هي الآن (وفي كل تاريخها المشرق)، ستبقى، بأريحية أهلها، وعراقة مجتمعها، وجمال تقاليدها، مدينة «التقوى» و»السلام» كمسجديها العظيمين، وستبقى ساحتها نور الساحات.