IMLebanon

سوق النحّاسين في طرابلس: هل هذا آخر المشوار؟

 

تتسابق الأسواق الطرابلسية في ما بينها على الإهمال والتعثّر، وربّما الإقفال الذي لم يعُد بعيداً. أسواقٌ كانت في الماضي رافداً أساسياً لاقتصاد المدينة وأهلها، هي اليوم بحاجة إلى من يرفدها بالأوكسجين، حتى تستمرّ على قيد الحياة.

 

ما يُميّز أسواق طرابلس، أو ما كان يميّزها إن صحّ التعبير، أنّ لكلّ سوق من هذه الأسواق إسمه المأخوذ من نوع الصَنعة أو الحِرفة الغالبة على إنتاج ذاك السوق. من هذه الأسماء التي ألفتها الآذان الشمالية واللبنانية: سوق العطّارين، سوق النحّاسين، سوق الكِندرجية، سوق الخيّاطين الخ. ما يُخشى في هذه المرحلة أن تُصبح هذه الأسماء من ماضي المدينة، تماماً كما أشياء كثيرة خسرتها طرابلس، وذهبت إلى غير رجعة.

 

سوق النحّاسين

 

من اسمه تعرفه. هو سوق لبيع النحاسيات وما شاكل، وله تاريخ عريق من تاريخ مدينة طرابلس. هذا السوق الذي بُني في عهد المماليك ويملك شهرة كبيرة وواسعة، ولعلّه من أشهر أسواق مدينة طرابلس، يفتقد اليوم إلى زواره وزبائنه وإلى البيع الذي كان لا يتوقّف برهة، فكانت تعلو “قرقعة” النحاس منه لتملأ زحمة الأسواق الأخرى. واليوم عاد ليسكنه السكون، في مشهد لا يعكس أبداً طبيعة هذا السوق وسبب وجوده. فبحسب أصحاب المحلات العريقين فإنّ عراقة هذا السوق كانت له ميزاته. كان أوسع من الآن والسيارات لم تكن لتدخل إليه. من أراد الدخول يأتي مشياً على الأقدام، وكانت الناس تأتي من مختلف المناطق اللبنانية وحتى من بلدان العالم لتتمتع بمنظره، بنحاسياته، بأوانيه، وحلاوة ما بعدها حلاوة.

 

في حال السوق اليوم، بعض محلّات النحاسيات القديمة لا تزال موجودة، ومحلّات من نوع آخر كالبرادي مثلاً، افتتحت فيه، ومنها ما أقفل ومنها لا يزال صامداً، لكنّ حركة الأمس مفقودة. يقول الحاج طرطوسي عن السوق: “رزق الله على الأيام التي راحت ولن تعود. أين الحركة وأين الشغل الذي كان لا يتوقّف حتى ساعات متأخّرة من الليل؟ هذا السوق منذ سنوات يتراجع ويتقهقر، والحركة اقتصرت على بيع بعض الأواني البسيطة والأجراس، ثم جاءت الأحداث الأخيرة وبعدها ارتفاع سعر صرف الدولار، فصارت ألواح النحاس أغلى بكثير، ولم نعد قادرين على التصنيع… كانت لدينا صالة عرض فيها من كلّ الأشياء، ومصنع فيه عدد من العمال. الآن لم يعد هناك إلا أنا وإبني، فلا إمكانية في هذه الظروف لتشغيل عمّال طالما لا عمل. نتحسّر في هذا السوق على الدور وكذلك على الدوران، عندما كان هذا السوق لا يخلو من الحركة، والحركة كلها كانت بركة ببركة”.

 

أضاف: “كان السوق يضمّ عشرات المتاجر، ويمتلئ بأجمل النحاسيات من الحِلل والصواني، والصدور (للحلويات)، والتُحف الفنية والطناجر وركاوي القهوة والمصبّات والنراجيل، وكلّ ما شاكل من الأواني، وكل ما تتطلّبه المنازل. لو كان البيع كما كان في السابق، لرأيت كل شيء، لكنّنا لم نعد قادرين على شراء الألواح، نظراً الى ارتفاع سعرها، وإذا ما عرضت معروضاتك بأسعار اليوم الخيالية، فمن يشتريها في ظلّ هذه الضائقة”؟ في هذا السوق الذي كان في زمن العزّ في مدينة طرابلس، يعجّ بالناس مثل خلية النحل، تعاقبت على المهنة عائلات عدّة: مثل آل طرطوسي، عزّو، طلحة وحسون. لم يصمد في السوق إلا بعض الأشخاص من آل الطرطوسي الذين حافظوا على هذه المهنة، وتوارثوها جيلاً بعد جيل، ويعيشون اليوم مع السوق غرابته وغُربته. الخشية اليوم من أن يندثر هذا السوق، خصوصاً بعدما دخلت ظاهرة صناعة “الستانليس” وغيرها من المواد إلى الأسواق، والأوضاع الإجتماعية والمعيشية الصعبة التي تمرّ بها طرابلس والشمال.

 

قد لا يتمنّى من بقي صامداً في هذا السوق، عودته إلى ما كان عليه في زمنٍ غابر، ربّما لأنّ ذلك صار ضرباً من المستحيل، لكنّه يتمنّى أن يعود محلّه كما كان قبل عشر سنوات من الآن ربّما، أي إلى التصنيع والبيع وتشغيل العمّال، حين كان يعمل ويؤمّن المردود المادي ويربح، وليس كما هو الحال الآن، لا يعمل، ولا يربح، ولا عمّال ولا عمالة، وألّا تكون نهاية مشوار السوق ومن بقي فيه، هذه هي الحكاية الحزينة.