Site icon IMLebanon

حين سمعت طرابلس أن ثلث سكانها غرباء!

 

تركيا تعدُ بالجنسية واللبنانيون يرحّبون

 

ذات يوم، ليس ببعيد، أطلّ فيصل كرامي ليتلو بياناً ختمه بعبارة: إتقوا الله في طرابلس وأهلها. والبارحة، منذ يومين، أطلّ ليقول إن ثلث أهالي طرابلس جذورهم تركية. وبعيداً من الإطلالتين، قام الرجل بأكثر من زيارتين، في أقل من شهر واحد، الى تركيا، في ظلِّ كلام كثير عن دور فاصل يريد أن يلعبه “فيصل” عبر دولة تريد أن تكون “اللاعبة” بأحجار دومينو المنطقة. فهل وُجد “ممر عبور” ليعود الأفندي “أفندياً” وتعود تركيا “سلطنة”؟ وهل علينا أن نتوقع تغييراً في ديموغرافيا طرابلس؟ وماذا لو قررت تركيا، إذا صحّ الكلام، منح الجنسية التركية الى “أولادها”؟ وماذا لو قررت إيران ان تحذو حذوها؟

 

لا يختلف اثنان أن وجدان أهالي طرابلس مع الأتراك، لكن لا أحد، حتى “الطرابلسيين” أنفسهم والقيمين على سجلات النفوس هناك وكتّاب التاريخ، كانوا يخالون أن ثلث أهاليها قد يكونون من أصول تركية! في هذا الإطار، أبحر كثيرون في اليومين الماضيين في السجلات، لا سيما سجلات آل كرامي، وعادوا الى عبد الحميد كرامي، أحد زعماء الاستقلال الذي شكل الحكومة اللبنانية الثالثة بعد الإستقلال، فلم يتبينوا في المعلومات إلا أن الرجل درس اللغة التركية الى جانب اللغتين العربية والفارسية، ويوم جلاء العثمانيين عن لبنان عيّنه الملك فيصل حاكماً إدارياً للواء طرابلس وأعطاه اللقب التشريفي التركي Efendi الذي اصبح بلغتنا العربية “أفندي”. فمن أين استقى الأفندي – الحفيد معلوماته؟ وما لزوم التفوّه بهذا الكلام، بغض النظر إذا كان حقيقياً أم لا، في وقت يسترسل فيه رجب طيّب أردوغان في الغوص بأحلامه في المنطقة؟

 

هناك من حاول، منذ أشهر، الهمس بأن وزير العدل السابق أشرف ريفي أصبح لاعباً في “البهو التركي”، لكن الجنرال استطاع وضع النقاط على الحروف وردّ “الطابة” بقساوة في اتجاه مطلقها. خرج ريفي من سيناريوات “القيل والقال” أما طرابلس فتستمرّ واحة خصبة لاتهامات متنوعة، بينها استمرار قابليتها للاشتعال ووجود خلايا إرهابية فيها ممولة من أردوغان. وزير الداخلية سبق وحذّر من خطر آت من “خلايا نائمة” في الشمال. غيره فعلوا أيضاً. لكن، هل تنتظر هكذا خلايا طويلاً بعد إفشاء أمرها لتظهر؟ وماذا تنتظر “الدولة” العارفة بوجود هذه الخلايا لتسيطر عليها بيدٍ من حديد؟ غريبٌ حقاً كل ما حدث سابقاً في طرابلس وما يحدث اليوم من تناقضات تطرح أسئلة لا أجوبة منطقية عليها.

 

 

وكأن نواب طرابلس هم اليوم مع قاعدة “السكوت من ذهب”! وحده الأفندي يتحرك، من مقلب الى مقلب، فها هو يروح ويجيء الى تركيا ويتحدث عن “مزايا الأتراك” وهو محسوب واقعياً على فريق سياسي يفترض أن له تطلعات مختلفة تماماً. الأحباش أيضاً (جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية) تنشط “تركياً” في حين أنها تنظيم يعادي الإخوان المسلمين وبينه وبين “حزب الله” علاقات وطيدة. فما هذا التباين بين من يمدون الأيدي في طرابلس والشمال الى تركيا وهم ينتمون واقعياً الى الفلك الحزبلاوي؟ سؤالٌ يُسأل. رئيس القسم الديني في دائرة الأوقاف الاسلامية في طرابلس الشيخ فراس بلوط سمع ما قيل عن “أولاد طرابلس”، ويقول: “إنهم يخلطون الحابل بالنابل. وبالتالي كثيرون ذهبوا وعادوا من والى الدولة العثمانية قبل أن تصبح تركيا الحديثة، وهناك من التحقوا بالجيش العثماني وإذا أراد النائب كرامي اعتبار كل من شارك يومها تركياً تكون جذور كل سكان الدول العربية تركية، أسوة بمن شاركوا في قوات الأمم المتحدة لاحقاً. ويستطرد بالقول: توجد في تركيا عائلات المصري والمغربي والأندلسي (مالكو محامص الأندلس) فهل هؤلاء ينتمون الى مصر والمغرب والأندلس؟ إذا اعتبرنا ذلك لا يعود هناك أي مواطن طرابلسي طرابلسياً. ويتابع: إذا أرادت تركيا أن تؤسس لشبكة سياسية او أمنية لها في طرابلس، فلن يكون ذلك من خلال فيصل كرامي الذي يعود الى محور لا ينسجم مع تركيا”. يسأل بلوط عن معنى التبعية ويقول: “ثمة مصطلحات فضفاضة مثل الارهاب”. يضيف: “لا أحد ينكر أن طرابلس طوال عمرها عاطفتها نحو القضايا الإسلامية، وبالتالي إذا كان المقصود التبعية الوجدانية، فربما، أما التبعية الواقعية فهي للدولة اللبنانية. انزلي الى طرابلس فتري الجميع يلتزمون بالقوانين، باستثناء التبانة. الطرابلسيون متعاونون أما المتطرفون فلا دين لهم”.

 

يستغرب رئيس القسم الديني في دائرة الأوقاف الاسلامية الكلام عن دعم تركي يتعدى المساعدات الانسانية والتربوية، ويقول: “كيف لتركيا ان تفعل ذلك والمؤسسات الرسمية والأمنية بغالبيتها تحت سيطرة حزب الله. ثمة عائلات (سنية) مدعومة من حزب الله تحت خانة “سرايا المقاومة” تحكم الأرض، في حين إذا أمسك سواها بسكين لتقشير البطاطا يقولون عنه ارهابياً. حزب الله قادر على “خردقة” النسيج الطرابلسي حين يشاء أما تركيا فتدخل الى طرابلس وبعض مناطق الشمال لبناء مسجد أو حيطان دعم أو مساعدات غذائية، أما عسكرياً فالأمر “لا يركب في العقل”، فثمة فارق كبير بين كيس الطحين والبندقية”.

 

الثابت، إذاً، أن تركيا موجودة وبعمق في طرابلس والشمال لكن من الباب الإجتماعي. والسؤال، ماذا لو قررت تركيا أن تمنح الجنسية الى طرابلسيين يقال أنهم يتحدرون منها؟ هل ستبقى طرابلس طرابلس؟

 

إلى الكواشرة…

 

فلنقصد الكواشرة، القرية اللبنانية الجميلة في قضاء عكار التي تقع ضمن تجمع القرى المسماة الدريب الأوسط، التي يتكلم أهلها اللغة التركية. وماذا لو بدأت طرابلس، مع كل هذا الدعم والمساعدات التركية، تتكلم هي أيضا التركية؟ إنها مسؤولية الدولة اللبنانية التي تهمل ناسها ما يجعلهم يشعرون بالانتماء أكثر الى حيث “وجدانهم”. هناك، في الكواشرة، نلتقي مع الشيخ بكر محمد، إمام المسجد، الذي يتحدر بدوره من جذور تركية. يقول الشيخ بكر: “أي واحد يدعمنا، سواء أكانت ايران أو تركيا أو فرنسا أو روسيا، فنحن معه، لكنَّ انتماءنا سيبقى روحياً وسياسياً الى لبنان. إذا أرادوا هم دعمنا فأهلاً وسهلاً. ونحن نعلق العلم التركي حين نستقبلهم ثم نرفعه ونضع العلم اللبناني ولا نذوب في غير لبنان. يضيف: اتصلت بنا المخابرات مرات لسؤالنا عن الوضع داخل الكواشرة وبعد زيارة السفير التركي والقنصل الى منطقتنا. السفير التركي يأتي ليمارس الرياضة عندنا. وهو أتى في عيد الاضحى وجرى بدعم تركي نحر 300 عجل في عكار. تركيا تدعم الشعب الفقير وهذا ما يحتاج إليه ناسنا. وهناك أساتذة يعلّمون الطلاب ساعة في الأسبوع اللغة التركية. وتقام أحيانا محاضرات حول التاريخ التركي. والجامع الذي نصلي فيه قامت تركيا بتلبيسه بالحجر”.

 

وماذا عن الجنسية التركية هل يحملها الشيخ؟ هل يحملها سكان الكواشرة وعيدمون؟ يجيب: “وعدونا بها لكن حتى هذه اللحظة لا يحملها سوى طلاب ذهبوا الى تركيا ليتعلموا. والجنسية حق لنا مثلما يحمل بعض الوزراء الجنسية الأميركية أو الأسترالية أو سواهما”. تركيا تعدُ بالجنسية. واللبنانيون مستعدون لحملها كيف لا طالما جنسيتهم اللبنانية لا تحميهم إجتماعياً ومعيشياً وتربوياً وربما أمنياً.

 

السؤال يتكرر: ماذا عن ثلث الطرابلسيين الذين قيل إنهم أتراك؟

 

الباحث في تاريخ طرابلس والمجاز في علم الأنساب فؤاد طرابلسي لا يجيب أبداً على هاتفه. هو لا يريد على الأرجح التورط في الموضوع. لكنه سبق وقال في محاضرة قدمها عن ألقاب مدينة طرابلس قديماً وحديثاً، بأنها “عرفت في العصر الفينيقي بمتروبول فينيقيا وبدار الندوة ودار الشورى، وفي العصرين الفاطمي والصليبي بدار العلم وفي العصر المملوكي بالمملكة الشريفة وفي العصر العثماني بالفيحاء”. اليوم نعرف طرابلس أيضا بالفيحاء. يبدو أن العثمنة لا تزال تفوح في المدينة ولو بالاسم. والمسؤولية ليست على ناس طرابلس بل على الدولة التي أهملت ناسها.

 

ثمة أساتذة في التاريخ سجلوا أيضاً تاريخ طرابلس لكن “السجلات لم تُظهر مَن أصله تركي”. ويخبر أحد أساتذة التاريخ أن “أيام العثمانيين عمل طرابلسيون قضاة ومحاسبين و”دفتردار” (وهو أكبر منصب للشؤون المالية في الدولة العثمانية)، وقد يكون هؤلاء حصلوا على الجنسية التركية”. وماذا عن كلام فيصل كرامي اليوم؟ يجيب أستاذ التاريخ: “قد يكون حزب الله قال له “ساير” الأتراك كي يزعج السعودية. فمن يتحكم في اللعبة السياسية في طرابلس هو حزب الله. وهو من سمح له على الأرجح أن يذهب مرتين الى تركيا في أقل من شهر”. كلام أستاذ التاريخ هذا يُشبه كلام نائب طرابلسي قال: “فيصل يحاول تعزيز حظوظه عند الأتراك، كونه يبحث عن حماية لوضعه السياسي، وحزب الله قد يكون قدم له “قبة باط” في سياق العلاقات الإيرانية – التركية لكن فعلته هذه لن تمر مرور الكرام عند سوريا وسيدفع ثمنها”.

 

الأحباش (جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية) اتُّهموا مراراً أيضاً بصلاتهم مع تركيا. وهم المقربون واقعياً من “حزب الله”. أليس في هذا نوع من التناقض؟ يجيب مسؤول اعلام المشاريع الشيخ عبد القادر فاكهاني الموجود خارج البلاد: “هذا الكلام غير صحيح فلا اتصال بيننا وبين تركيا حتى على صعيد العمل الإغاثي أو غيره، لكننا اعتدنا على سماع كلام كثير غير صحيح”. وماذا عن كلام فيصل كرامي؟ يجيب: لا تعليق.

 

الاتهامات كثيرة والكلام الذي يتكرر على ألسنة من يمسكون بالقرار الأمني أو السياسي، عن خلايا ارهابية، ينطلق أساساً من توقعات (واقعية أو نظرية) تدور رحاها في طرابلس والشمال. وأتى حراك فيصل كرامي وكلامه ليطرح السؤال: ماذا يُعدّ للفيحاء؟ وماذا لو طالب ثلث الطرابلسيين بالجنسية التركية؟ هل نتخيل أن نرى فيها ذات يوم مشهداً يشبه مشهد أنقرة أو مرسين أو انطاكيا؟

 

هنا نشير الى وجود خط بحري مباشر يربط بين طرابلس ومرسين، ولكنّ هذا الخط ممسوك من أجهزة الدولة ومراقب بنسبة 10 على 10 من عناصر “سرايا المقاومة”. يعني لا شيء يحصل أو قد يحصل هناك، إلا برضى من يمسكون الأرض، ممن قد يسمحون “بقبة باط” لأهالي المدينة كما في أيام الثورة، ولكن عند اتخاذ القرار تتحرك القوات الأمنية في أربع دقائق، “فبين كل خمسة أشخاص هناك ثلاثة من المخابرات وفرع المعلومات”.

 

ماذا عن “تيار المستقبل”؟ منسق “التيار” في تركيا رامي محفوض (الموجود حالياً في تركيا) يطرح ألف سؤال وسؤال قبل أن يقرر الإجابة. وقراره كان التريث. مشيراً الى بيان “تيار المستقبل” ردّاً على فيصل كرامي وفيه: “ان زياراته تأتي في اطار الظهور والاحتماء بالمظلة التركية في ظل متغيرات جوهرية طرأت على نظرة العالم للمتعاونين مع ايران وحزب الله”.

 

إذا صحّ هذا فلا يعني أن تركيا لا تعير طرابلس والشمال الآن اهتماماً أكثر من أي أوان. وإذا صحّ ما قال عن جذور ثلث الطرابلسيين فهذا يعني أن لبنان، الذي كنا نقول حين يشتد الويل فيه أنه سيُصبح لبنانات، سيُصبح لبنان وتركيا وايران وفرنسا وروسيا وأميركا… ولن يبقى منه إلا أغنيات فيروز ووديع الصافي وصباح.