نشاطات طلاب الجامعات بين الإبداع وتأمين المداخيل ودعم المطالب
لا حدود لابتكاراتهم..شبابٌ حيويٌ مفتوح الأفق على الإبتكار…الساحة نفسها، لكنّهم كل يوم يدهشون الزائر بفكرة جديدة…تُوحّدهم رؤية التغيير والخروج من النظام الطائفي، أمّا وسائل التعبير فلا حدود لها. كم هي بعيدةٌ المسافة بين لغاتهم واللغة المتداولة في السياسة والمجتمع على مدى سنوات ماضية، شبابُ اليوم كأنهم يأتون إلينا من مستقبل غدنا، وليس من يومنا المهترئ بأزماتنا المتراكمة. نشاطات “ثورية” دائمة عابرة للمناطق، متعددة الأهداف والأبعاد على امتداد الوطن، تعكس الروح الحضارية والسلمية للثورة، والتمسك بالمطالب الموحدة وبضرورة التغيير. فمن تحية طرابلس لروح ” شهيد الثورة ” علاء ابو فخر، بجدارية ضخمة على أحد الجدران في ساحة النور، متضمنةً رسماً لزوجتهِ وابنهِ في مشهد مؤثر، مع طرحةٍ بيضاء تمثل عروس الثورة، إلى اللوحات والرسومات الفنية للثوار والثائرات والثورة، إلى عمليات الإسعافات الأولية بمبادرات فردية مجانية، مروراً ببيع الـ Tshirts والأكسسورات الخاصة بالثورة، وصولاً إلى هواية الرسم على الوجوه، وجوهُ أطفال الثورة وشبابها وحتى كبارها، وليس انتهاءً بالبحث عن مدخول مادي ظرفي لتأمين أقساط الجامعة، ومتوجبات نهاية الشهر وبالطبع بحثاً عن لقمة العيش كمحاولة لطرد شبح الفقر وندرة فرص العمل عن كاهل الكثير من شباب وشابات الثورة، الذين/اللواتي لا يتركون/ يتركن ليلة واحدة تمضي دون القيام بعملية تنظيف الساحات وإزالة النفايات.
هؤلاء الطلاب الجامعيون هم عصبُ البلاد ومستقبله، يفترشون الطرقات – الساحات بنشاطاتهم وأفكارهم، يثلبلهم نشاطٌ بطيء للطبقة السياسية وأفكار غير فعّالة تحاكي المطالب الأساسية للثوار، الذين رموا والفئة الطلابية الجامعية “الثائرة” كرة السقوط الملتهبة في ملعب السلطة.
جدارية شهيد الثورة تضامنا معه ومع عائلته
تكشفُ سارة سيوف، طالبة جامعية أن الجدارية أتت بمبادرةٍ مجانية شبابية من الرسامين الثوار (Artists of revolution) وفرضت نفسها كأولوية بعد استشهاده، وتشرح “إستغرق رسمها منذ الثامنة صباحاً وحتى الرابعة بعد الظهر، أدخلنا عليها زوجته وابنه، ويدين متماسكتين للتعبير عن وحدة الشعب اللبناني، فيما الطرحة التي تلفهما تمثل “عروس الثورة” طرابلس، وتشمل بحركتها الأم والإبن كدليل على تضامن الثوار معهم، وتظهر الأم وهي تنظرُ الى الشهيد، فيما تغطي بيديها عيون ابنه، كي لا يرى والده كتجسيد للمشهد الحقيقي الذي اجتاح عقول ومشاعر اللبنانيين جميعاً”.
وإذ تشير إلى تراجع الإقبال وانخفاض الطلبات بعد الثورة، تضيف أنه “في بادئ الأمر نزلت لأشارك الثوار في ساحة النور، بعدها شاركت في المسرح الإرتجالي وأقمت مع مجموعات هذا المسرح عروضات عدة للثوار، ومن ثم شاركت مع إحدى الفرق الموسيقية في الثورة في الإيقاع” إيقاعات تنسجم مع هتافات الثورة، بعدها شاركت سيوف مع الجامعة اللبنانية في عمل فني حول الثورة قدمناه (بالخشب)، وكل ذلك كتطوع للثورة، لأن مطالبها محقة، ولم تعد تروق لي فكرة البقاء في المنزل، فمشاركتي في الثورة أصبحت يومية.
دم قلبي على أولادي كي… يهاجروا ؟
بدورها تسألُ الفنانة التشكيلية نِعَم قاسم، كيف لا أقوم بواجبي حيال الثورة وأولادي الذين دفعت “دم قلبي” كي أعلمهم وفي النهاية لا عملَ لهم، لافتةً إلى انهم اضطروا للهجرة الواحد تلو الآخر، بحثاً عن عمل يساعدهم في تكوين عائلة، فيما الدولة بحاجة الى العقول المتعلمة والمبدعة والمثقفة، لكنّها ترغم بسياساتها أمثالهم على الرحيل.
وتَذكر قاسم التي تعمل مدرسةَ متعاقدةَ في “مهنية طرابلس الفنية “و”مدرسة الحياة الرسمية”، أنّها محرومة من أبسط الحقوق وهي الضمان والراتب الشهري ومن حقها بالتثبيت، علماً أنّ التعاقد بدعة نشأت بعد الحرب الأهلية ولم تصحح حتى اليوم، وهذا واقعٌ صعب بالنسبة لكل المتعاقدين.
لم تتردد الطالبة – الأم في المشاركة في عدة مسيرات جامعية، كمسيرة الاساتذة المتعاقدين، ومسيرة أساتذة الجامعات والطلاب الجامعيين وفي المسيرات النسائية، “خصوصاً في مدينتي طرابلس التي إتُهمت بالارهاب وحُرمت من أبسط حقوقها الاقتصادية والانمائية، ومن غياب الإعلام عنها” وفق تعبيرها.
وتقومُ الحائزة على ماستر في الفنون، بنقل الثورة على اللوحة كي تبقى شاهداً على هذا الحدث التاريخي، فالساحة تحولت مصدر إلهام لي وللكثير من الفنانين، وقدمت إحدى لوحات الثورة لإحدى الخيم الطلابية، كما جَسدتُ مصدر إلهامي الثاني “الشباب” في لوحة، وهم يحملون الاعلام في الطريق، كما جسدت صرخة نساء الثورة بأرزةٍ تمثل صراخهنّ “ثورة”.
معرض للوحات الثورة في بيروت وطرابلس
بأسلوبه الخاص يهوى ايلي زيني (ماستر 2 في الفنون التشكيلية) التصوير والتقاط الصور للثوار في ساحة النور، بهدف رسمها أولا وإقامة معرض عن الثورة لاحقاً، بعد نشرها على منصات التواصل الاجتماعي، ويؤكد “هذا النشاط مجاني، فالرسم هو أحد أساليب التعبير السلمية، وكأسلوب لتخليد الاحداث اليومية للثورة في ساحة النور وأرشفتها، وهذا ما نجحت فيه معظم الثورات العربية”.
فالثوار شكّلوا مصدر الهام للأستاذ المستعان به في مادة الفنون التشكيلية، فضلاً عن الأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة للمواطن الطرابلسي. ومن ضمن رسوماته لوحة عن عيد الاستقلال مستوحاة من الثورة الفرنسية للفنان الفرنسي أوجين دو لاكروا “استوحيت رسم المرأة عند لاكروا وأسقطتهُ على المرأة اللبنانية وهي تحمل العلم اللبناني، وخلال أيام قليلة سأشارك في معرض من تنظيم جمعية الفنانين للرسم والنحت في بيروت يرتكزُ على موضوع الاستقلال ولوحات الثورة في ساحة الشهداء، ولاحقاً سأعرضها في معرض سيتم تنظيمه في طرابلس”.
بائع كعك جامعي و”تاركها على الله”
ولا تختلفُ ظروف الثوار المعيشية والإقتصادية في طرابلس عن تلك التي يعاني منها معظم الثوار في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وهذا ما يعكسهُ حال الطالب الجامعي محمد عواد (سنة ثانية حقوق في الجامعة اللبنانية) “كنتُ أعمل في إحدى المهن الحرة، الضغوطات المالية ومتطلبات العائلة دفعتني إلى البحث عن عمل، إلى أن انطلقت الثورة، فأتيت إلى هنا لأعمل بائع كعك بمساعدة زوجتي، من الساعة الخامسة بعد الظهر وحتى الثانية صباحاً وأحياناً أنام هنا”.
بروح مستسلمة للواقع يشدد الأب لولدين (صبي وبنت) على أنّ “كل ما أسعى إليه هو تأمين لقمة العيش لعائلتي وما قسمه الله لي سآخذه، فالطموح مات عندي منذ أكثر من سنة”، مؤكدا تأييده مطالب الثورة لا سيما المتعلقة بالوظائف والعمل دون الحاجة الى “واسطة”، فحتى لو تقدمتِ لوظيفة عسكري “زحاف” أنت بحاجة إلى “واسطة” ودفع المال لها.
واقعٌ دفعه إلى التمسك بفكرة الهجرة أكثر من أي وقت مضى، فكرة قابلة للتراجع عنها شرط جعل الدولة التعليم والطبابة مجانييين، سائلاً: كيف لشباب اليوم أن يعيش؟ فأنا أدفع إيجار منزلي 400 دولار (وغالباً ما أخوض مواجهات مع صاحب المنزل) فضلاً عن أقساط أولادي المدرسية وزوجتي الجامعية. “وبصراحة أنا لا أعرف كيف أعيش مع عائلتي “تاركها ع الله”، أحياناً يكون في حوزتي ثمن الطعام اليومي لعائلتي، وأحياناً لا”، يردد كلماته بغصة.
الإسعافات الأولية جاهزة
على بعد أمتار من عربة عواد يستوقفنا إبراهيم حبيش، وهو يتحضرُ لاستقبال حالة مرضية من بين الثوار على “الشاريو”، وهو واحدٌ من فريق عمل مؤلف من 101 شخص، مبيناً آلية عمله “يتم التنسيق في الايام العادية، كي يتواجد طبيبان ومسعفان(2) وممرضتان في خيمة ساحة الشهداء، وفي الايام التي يرتفع فيها عدد الثوار نفتح الخيمة الثانية في رياض الصلح بالعدد ذاته لتلبية حاجاتهم، وبدأنا عملنا في اليوم الثالث من الثورة”.
وحبيش ابن الـ 22 عاما، يتخصص في الهندسة الالكترونية -السنة الرابعة، يعمل كمسعف (level 3)، قال إن المجموعة كلها من حملة الشهادات الجامعية، متطرقاً إلى المبادرة التي انطلقت من (tweet) غردها الدكتور مصطفى موصللي، لتقديم الرعاية الطبية للثوار مجاناً، ومن ثم توسعت عبر الـ share والـ tag عبر الفيسبوك، موجهاً الشكر للجامعة الاميركية التي قدمت الكثير من التجهيزات والمستلزمات المطلوبة للأإسعافات الأولية مجاناً، مشيراً إلى أنّه “إذا وجد الطبيب المختص الحالة طارئة ننقلها عبر سيارات الأجهزة المختصة المتواجدة بالقرب من خيمتنا، إلى مستشفى الجامعة الاميركية (الذي يعالجه على حساب الضمان أو وزارة الصحة).
اللبناني غير المديون لا يكون لبنانياً
إنتقالاً إلى ساحة رياض الصلح يبين زهير العبيدي (23 سنة، ثالث سنة تجارة في جامعة LAU) الأسباب التي دفعته الى المشاركة في الثورة على طريقته “البلد واقف “فيما الزعماء السياسيون في حالة ضياع، ولا يعرفون كيف يتخذون القرارات المطلوبة، بينما مكافحة الفقر والحرمان والفساد وغياب فرص العمل باتت أبرز مطالب الثوار، ويشرح “كنت أعمل بالشراكة مع صديقي في شركة Online delivery وكنا نتعامل مع العديد من المحلات التجارية لنوصل “الطلبيات” إلى زبائنها، وكنّا سعداء بعملنا إلى أن أتت الثورة، التي أدت إلى تراجع عملنا بشكل كبير، عندها خصصنا ما حصدناه خلال 25 يوما من العمل لشراء مجموعة من الـ T SHIRTS وطبعنا عليها صوراً وشعارات خاصة بالثورة مع مجموعة من الاكسسوارات بسعر مناسب لنا وللثوار”.
ووفقَ العبيدي المُهم ألا يبقى عاطلاً من العمل، خصوصاً أنه في طور تأسيس ذاته، “لأن اللبناني غير المديون لا يكون لبنانياً”، إذ يتوجب عليه دفع الجزء الاكبر من أقساطه الجامعية وأقساطه الأخرى عند نهاية كل شهر، هذا يفرض علي العمل مع شريكي بمعدل 9 ساعات يومياً، منذ بداية الثورة.
ومن ساحة رياض الصلح إلى بلدة الفاكهة البقاعية ( في البقاع الشمالي )، المعاناة ذاتها، بدليل ما تخلص إليه الطالبة الجامعية عطور سكرية ( ماستر1، فلسفة عامة) تقول: “المنطقة تفتقر إلى فرص العمل، وتعاني من الإهمال، وكل يوم أقضيه مع الثوار، أشعر بأنني أحقق ذاتي، سأبقى حتى تتحقق مطالب الثوار، ولن نرضى بالواقع الذي نحن فيه أبداً بعد اليوم، هذه الثورة لنا ولأجيالنا القادمة”، سائلةً: “أوَلم تتوحد الثورة على فكرة واحدة ” كلن يعني كلن “؟. كفى هدراً وسرقات وفساداً. أوَلم تستوعب الطبقة الحاكمة أنه لم يعد مرغوباً فيها ؟ يبدو أن حبهم للكراسي أهم من معاناتنا المزمنة ؛ أما حقوق الشعب اللبناني المهدورة فلا تعنيهم”.
الرسم على الوجوه
وسكرية التي تعمل كمدرسة في التعليم الرسمي (بالتعاقد) للطلاب السوريين في “متوسطة الزيتون الرسمية”، دفعتها أجواء الثوار ومطالبهم للنزول الى الساحات لمؤازرتهم “رحت أمارس الرسم على الوجوه وجوه الأطفال وحتى الكبار ممن يرغب، وأقوم بعملية إزالة النفايات مع مجموعة من الثوار عند انتهاء أي نشاط ثوري، والدافع الرئيسي وراء كُل ذلك هو التركيز على مفهوم الثورة السلمية الحضارية، والروح الحضارية، والإضاءة على الإيجابيات وضرورة التغيير”.
ويبدو أن واقع نشاط الثوار في النبطية وكفررمان، يختلف عنه في المناطق الأخرى، وفي هذا السياق يفيدُ مصدرٌ متابع لتحركات الثورة فيهما أنّ معظم الطلاب الجامعيين المشاركين في الثورة هم ضمن ناشطي الحركة الطلابية الخاصة بها، منهم من كان يعمل (free lancer) ويشارك في الثورة في أوقات فراغه ولا يزال، والقسم الأكبر لا يعمل من الاساس ولا يزال ضمن صفوف الثوار، وهم يذكرون بما حصل عندما باشرت هذه الحركة بإقامة مسرح للثورة كباقي المناطق، من تعرض العديد من الشباب والشابات للمضايقات حتى أن البعض تعرض للشتائم والضرب لأسباب معروفة طبعاً، واصفين الوضع الحالي للطلاب بأنه على “قد الحال” ، و”مختلف جدا”، لكن هذا لا يعني أنهم غير ناشطين على الأرض، بشكلٍ يومي في الساحات وضمن النشاطات الطلابية والجامعية، من جلسات حوار ونقاش، التي ينظمها الثوار داخل الخيم.
في النهاية، يتعب الكلام من الكلام والثوار لا يتعبون.