ليست ملعباً ولا يجوز أن تكون. يكفي طرابلس، عاصمة الشمال، ما عانت ولا تزال تُعاني أكثر مما تتحمّله أي مدينة أُخرى. فمنذ الحرب وحتى اليوم، قلّما شهدت عاصمة لبنان الثانية استقراراً امتدّ لأكثر من أشهرٍ معدودة.
إنها تعني لي كثيراً. هي المدينة التي أقبلتُ على الحياة فيها، وأحببتها حدّ العشق. منها نهلت العلم، من المعهد الكرملي الذي زرع فينا حباً صافياً للوطن، ومع أنه بإشراف أولئك الآباء المُستنيرين، فقد عرفنا فيه، بحقٍ وحقيق، أن الدين لله والوطن للجميع. طرابلس كانت في أيامنا مدينة عطر زهر الليمون يضوع في لياليها ويبعث فينا هدوءاً وطمأنينة، قلّما تمكّنتْ منه مدينةٌ سواها.
«مدينة العلم والعلماء» كانت أيضاً مدينة الثقافة بمدارسها المُنتشرة في أحيائها، وأبرزها المدراس التي تحمل أسماء مسيحية كـ»الطليان»، أي الكرملية، و»الفرير» أي إخوة المدارس المسيحية، و»الراهبات» أي اللعزارية، و»العائلة» أي راهبات عبرين للعائلة المقدّسة، و»الروم» أي الأرثوذكسية التابعة للثلاثة أقمار، ومار الياس للروم الأرثودكس…
وكانت مدينة المكتبات التي لها شارعٌ باسمها ومن أبرزها مكتبة الثقافة الجديدة المهمّة التي أسسها الشهيد المرحوم مخايل فرح، وكانت ملتقىً دائماً لرجال الفكر والأدب والعلم… فيها يجتمعون وفي رحابها يطيب النقاش ويسمو بين ضيوف مخايل بمن فيهم رجال الدين من الطوائف كافةً بروحٍ علمية إنسانية راقية. وقد سقط مخايل ضحية الجهل في حرب السنتَين.
كانت مدينة العيش الصحيح، فالمآذن تعانق قباب الكنائس في تناغمٍ حقيقيٍ رائع. وكان المثلّث الرحمة رئيس أساقفة الموارنة في طرابلس والشمال المطران الزعيم أنطون عبد يُخبرني أنه يستيقظ فجر كلّ يوم، في «قلاية الصليب»، على صوت المؤذّن يقرأ الآيات البيّنات، فيشعر أنه في انخطافٍ روحيّ.
وكانت طرابلس تحتضن أبناءها كلّهم: أبناء شارع المطران وشارع الراهبات وشارع الزاهرية كما أبناء شارع التل والميتَين وعزمي وباب الرمل… وفوق هذا وذاك، كانت طرابلس «أم الفقير»، والعقود بين الناس كلمة شرف، والصدق هو المعيار، والكلمة هي ما يربط الإنسان.
وأما الأطايب، فمن «العرجا» و»الحلاب» وسواهما… فحدّث ولا حرج.
صحيح أن طرابلس فقدت الكثير من تلك القيم والمعالم بعدما ضربتها الحرب، وبعدما اختطفها، لاحقاً، ياسر عرفات. ولكن الأخطر ما حدث فيها من جولات الموت والرعب بين أبنائها فقراء باب التبانة وبعل (جبل) محسن الذين جرى استغلال ظروفهم الاجتماعية الصعبة والقاسية في معارك و»جولات» بين الأخوة لمصالح محلّية وداخلية وحتى إقليمية.
طرابلس التي أحببتُ كرّمتني بضع مراتٍ في احتفالاتٍ أدبية رصينة. ولو شئت أن أُسهب في الكلام عليها لما توقّفت. طرابلس هذه التي استقبلت في نواديها، خصوصاً قاعة النادي الكاثوليكي، كبار الأدباء والمفكّرين والفنانين اللبنانيين والعرب والأجانب، مثل «الكوميدي فرانسيز» حرامٌ عليكم أن تُحوّلوها إلى ملعبٍ لأهوائكم وأنانيّاتكم وأحقادكم وصراعاتكم التافهة، ولكن المجرمة.