ما حدث في طرابلس لم يكن مجرد صدام بين متظاهرين خرجوا إلى الشارع من أجل لقمة عيش أولادهم، والقوى الأمنية، بقدر ما كانت معركة متداخلة بين أطراف محلية وجهات خارجية، تعددت أهدافها، ولكن توحدت أساليبها، وبقيت الفيحاء ضحيتها الأولى.
الأطراف المحلية تبادلت الضغوط الساخنة على الساحة الحكومية من جهة، في حين خاضت أطراف جديدة، مثل بهاء الحريري، معركة إثبات وجود من جهة أخرى، ولو بقوة النار، للقول بأن لكل منها حصة من الكعكة الطرابلسية، بكل ما تمثله من ثقل في الزعامة السنية، وعلى اعتبارها الخاصرة الرخوة حالياً لتيار المستقبل، بعد الخسائر التي مُني بها في الإنتخابات النيابية الاخيرة، وتراجع وجود نوابه في الخريطة السياسية الطرابلسية، وإنحسار المساعدات الإجتماعية والتعليمية والصحية التي كانت تشكل الرافعة الأساسية للتيار الأزرق.
في الإطار المحلي أيضاً، سارع نواب المدينة والأطراف السياسية الطرابلسية الأخرى إلى دفع مناصريهم إلى الشارع بعد الزخم الذي ظهرت به تظاهرة الجياع والمهمشين في ساحة الثورة، مما أدى إلى تنافسات ومزايدات في التصعيد، ضاعف من حرارة المواجهة، وأفسح المجال لتسلل العناصر المخربة للإندساس بين المتظاهرين، وتنفيذ خططهم بسهولة، وخاصة عملية إحراق مبنى البلدية التي تمت بحرفية واضحة، حيث دخلت أفراد من المجموعة مجهزين بمواد سريعة الإشتعال، وأضرموا النار في مكاتب مختلفة، فيما عمد رفاقهم في المجموعة نفسها إلى الحؤول دون وصول سيارات الإطفاء إلى المبنى المُحترق، وعملوا على تفريغ ما تحمله من مياه في الشارع، ومرت أكثر من نصف ساعة قبل أن تتمكن سيارات الإطفاء من الوصول إلى مبنى البلدية التاريخي.
يمكن القول أن كل الأطراف المحلية خرجت خاسرة من المواجهة الساخنة التي كادت تحرق المدينة، وخروج المتظاهرين إلى بيوت نواب المدينة مرددين أقذع الشعارات، دليل جديد على النقمة التي تغلي في صدور فقراء الفيحاء ضد ممثليهم في السلطة، الذين عجزوا عن تنفيذ أبسط المشاريع الإنمائية التي تحتاجها طرابلس، فضلاً عن الإهمال المتمادي لمضاعفات إستفحال البطالة بين الشباب، وإرتفاع معدلات الفقر الطرابلسية إلى مستويات غير مسبوقة، جعلت منظمات الأمم المتحدة تصف مدينة «العلم والعلماء» بأنها الأكثر فقراً بين مدن البحر المتوسط.
أما ما تردد على أن فريق العهد اتخذ، من خلال بعض الأجهزة، المواجهة الطرابلسية ساحة للضغط على الرئيس المكلف، فيبقى من نوع الذي يقرأ في كتاب يعود إلى القرن الماضي، ولم تعد أساليبه تنفع في تحقيق الأهداف السياسية المرجوة، بدليل أن ردة الفعل السلبية إنعكست على الأجهزة نفسها، قبل أن تطال الأطراف المعنية.
بغض النظر عن الإتهامات المتبادلة حول حجم تدخل أطراف خارجية في الأحداث الطرابلسية، فإن ما جرى في تلك الليلة السوداء في الفيحاء، أثار قلق فرنسا وبعض الأشقاء والأصدقاء، من مخاطر توسع الإنتفاضة الطرابلسية وتحولها إلى «ثورة جياع» تعم لبنان كله، بعد الإنهيارات الإجتماعية والمعيشية التي داهمت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين السنة الماضية.
المفارقة المحزنة، أن أحداث الفيحاء هزت دوائر القرار في العالم، ولم تحرك جفناً للمسؤولين اللبنانيين، الذين ظهروا وكأنهم لبسوا جلود التماسيح، وركّبوا أذناً من طين، وأخرى من عجين، ولم يُحركوا ساكناً لإستيعاب نيران الثورة الشعبية التي تلوح في الأفق.
لا نُذيع سراً إذا قلنا أن إتصال ماكرون الأخير بعون جاء على إيقاع أحداث طرابلس، والكلام الذي سمعه الرئيس اللبناني من زميله الفرنسي، كان أشد سخونة من الحرائق التي إشتعلت في الفيحاء، وكذلك حال المكالمة الفرنسية مع الرئيس المكلف، في معرض الحث على التحرك وإيجاد المخارج المناسبة لتأليف الحكومة العتيدة.
يُقال أن اللواء عباس إبراهيم تحرك بعد الإتصال الفرنسي بعيداً عن الإعلام بين بعبدا وبيت الوسط، وحقق بعض الإختراق في جدار الأزمة السميك..،
ولكن هل يستمر هذا الإختراق في التوسع، أم أن الذي أجهض المحاولات السابقة، سيسارع إلى سد الثغرة الجديدة والإبقاء على القطيعة بين الرئيسين?