تضيف التصريحات الأمنية وبيانات حركة التوقيف والتحقيق البليدة والضبابية، حول ما حدث في طرابلس، قرينة إضافية تؤكد الجريمة الموصوفة التي تعرضت لها المدينة. لا يمكن تقبّل هذا الإمعان في دفع اللبنانيين لتصديق المفاجأة التي تحققت بعد ثلاثة أيام من أعمال شغب مشهودة في محيط سرايا طرابلس ومبنى بلديتها. وكأن القوى الأمنية كانت تنفذ تمرين محاكاة (Simulation) لحفظ الأمن في واحدة من المدن الإسكندنافية المتمتعة بأعلى مؤشرات الإستقرار والرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية، فلم تقوَ على حماية المؤسسات الرسمية والأملاك العامة. أجل لقد فاجأ الطربلسيون الذين تسللوا إلى كوبنهاغن الأجهزة الأمنية فأحرقوا بلديّتها ومقرّ حاكمها.
لا لزوم للإستفاضة في الحديث عن المفاجأة المزعومة، فالأجهزة الأمنية تعلم أنها تعمل في بيئة صديقة لها، وهي تعرف المدينة وأزقّتها وشبابها وفتيانها وحاراتها وسياسييها، وهي أدارت لعبة محاورها وأوقفت جولاتها. واللبنانيون الذين ينتطرون نتيجة تحقيقاتها يعلمون أنّ توقيف المأجورين قبل إحراق المدينة كان بمتناولها. لقد تظاهر مئات الآلاف قبل ذلك في طرابلس، فكيف يعجز من ضبط مئات الآلاف عن ضبط بضعة مئات، سؤال لا ننتظر عليه جواباً. إنّ اقتصار المعالجة الأمنية على إظهار الجديّة والحزم في تطبيق التدابير، لا يعني أن الإعتداءات لن تتكرر، فالمسألة لم تكن نتيجة نقص في الوسائل أو في القوى، كما أنّ عدم توفر الفرصة السانحة للإستثمار السياسي في ما جرى سيشكّل حافزاً لإعادة المحاولة في طرابلس أو في سواها، وإنما بسيناريوهات مختلفة وقد تكون أكثر خطورة.
إنّ الإهمال التاريخي المتعمّد والمستمر لمدينة طرابلس ليس سوى دوران لا يتوقف، تمارسه نُخب طائفية حكمت لبنان ولا زالت، حول جدلية الإنفصال والإتصال مع سكان المناطق التي أُلحقت بجبل لبنان. لقد مثّلت طرابلس في هذا السياق الإضافة النوعيّة والتحوّل الأكبر في المعادلة السياسية الإقتصادية والديموغرافية في متصرفية جبل لبنان التي كانت غارقة في حينه، في تناحر طائفي تحت وصاية الدول الخمس الكبرى. إنّ رفض إندماج المدينة في لبنان الكبير على امتداد عقود القرن الماضي لم يكن إلا ردّة فعل على عمقها الحضاري ورمزيتها التاريخية، وهو نتيجة الخطاب المضطرب بين استثمار الجدوى الإقتصادية لطرابلس والرغبة في إقفال المجال أمام المدينة للتموّضع في الموقع الإقتصادي الذي لا تنازعها عليه أيّة مدينة على شرق البحر المتوسط.
إنّ إطلاق العنان لطرابلس سيضيف الكثير إلى إرثها وهويتها وتنوّعها ودورها، ويقدّمها كحاضرة ثقافية وإقتصادية تتفوّق بأشواط على مثيلاتها على الساحل السوري اللبناني الفلسطيني. هذا ما جعل طرابلس هدفاً مشتركاً للدولة السورية منذ تأسيس لبنان، ولإسرائيل وللبرجوازية اللبنانية التي ترعرعت في ظلّ الإنتداب الفرنسي وتمركزت حول مرفأ بيروت. وهذا ما يفسّر حتى الآن إحجام الدولة اللبنانية عن قبول العروض التي تقدّمت بها دول عديدة، وكان آخرها من الصين، لتطوير قدرات مرفأ طرابلس بعقود (B.O.T )، وتعالي موجات الرفض لأي دور لمرفأ طرابلس بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت.
ما جرى في طرابلس هو نسخة معدّلة عن المحاولات السابقة، وهو نتاج عقل سياسي غبي، موتور وقصير النظر آثر الإستثمار بالأمن في الوقت الضائع، على طريقة من يطلق النار في الهواء. إنّ محاولة تحريك الساحة اللبنانية المثقّلة بالتراكمات الإقليمية من بوابة طرابلس، بمعزل عن أيّ مستجدات دولية باتّجاه الإضطراب أو التهدئة هو مضيّعة للوقت، فتشكيل حكومة في لبنان ليس شأناً لبنانياً بل أضحى جزءاً من الملف النووي ومن إتّفاقات التطبيع وبنداً من مقررات قمّة العُلا ومستقبل النظام في سوريا وخارطة النفوذ الإيراني.
إنّ مواجهة العبث بأمن طرابلس لا يمكن أن يقتصر على إجتماعات بروتوكولية لفعاليات المدينة للتأكيد على العيش المشترك بين أبنائها، فما الفرق إذا كان من تمّ توظيفه لإحراق بلديّة طرابلس ومحكمتها سنيّاً أم علوياً أم شيعياً أم مسيحياً، فأمن المدينة ليس في إعتذار طائفة من طائفة أخرى، والمدينة أكبر من أن توجّه لها أيّة تهمة من قِبل أيّة مرجعية سياسية أو دينية أو أمنية أو إقليمية. إنّ القوى المجتمعية الحية ومجموعات الرأي مدعوّة لمواجهة إنحراف السلطة السياسية بتظهير الوقائع الإقتصادية والصحية والإجتماعية والأمنية في المدينة وتعزيز تضامنها المجتمعي وخوض معركة حماية طرابلس. والقوى الأمنية مدعوّة لحماية وتأكيد ثقة اللبنانيين بها والخروج من كليشيهات العناصر المندسّة والمأجورة، فهي تدرك أدق التفاصيل في طرابلس وهي قادرة على التعامل مع كلّ العناصر المشبوهة المتسلّله منكوبنهاغن إلى طرابلس.
مدير المنتدى الإقليمي للإستشارات والدراسات