IMLebanon

طرابلس، مدينة العلم والعلماء والإنتفاضات والثورات

 

طرابلس، وأحداثها، ومن لهيب نيرانها المتأججة.. نبتدىء:

 

قبل الغوص في كل التداولات السلبية والتأويلات والإستغلالات المتلاطمة بين أمواج أكثر من جهة ومن طرف، وبما أطلق من «جهنم» طرابلس كل ما انطلق من حقيقة طرابلسية راسخة تمثلت منذ عقود زمنية متمادية في واقع الجوع والعوز والغرق الإجتماعي الذي يعاني منه الطرابلسيون بغالبيتهم الكاسحة المتروكة للإهمال الرسمي المتمادي، ورغبات حاكمة ومتحكمة بترك طرابلس لقدرها الغارق في مآسيه الحياتية والإجتماعية بحيث أصبحت هذه المدينة العريقة التي اجمعت التوصيفات الوطنية العامة على إطلاق لقب عاصمة لبنان الثانية على موقعها ودورها وكثافتها السكانية التي سبق أن شكلت من أركانها المتمادية، مدينة العلم والعلماء التي ما زالت ملامحها الأهلية ترفرف في أجواء تحولت مع مرّ الزمن إلى تراجعات إجتماعية وثقافية واقتصادية، وكان هذا التراجع نتيجة لفعل فاعل أطبق على تطورها الطبيعي من مدينة متألقة ومتطورة بامتيازات واضحة، إلى مدينة تحكّمت بها طفرات المطامع والمطامح والمخططات المشبوهة فتركتها مدينة ذات تاريخ عريق تسبح في لجج الإنكفاء والتخلف، وتتراكم من حولها أوجاع إجتماعية متعددة، يبرز في مقدمتها في هذه الأيام الطاغية، فقر مدقع حرم الأكثرية من أبنائها من لقمة العيش الكريم، ومن علم المدرسة والجامعة، ومن رخاء الحياة الإجتماعية المعقولة، وهو في الواقع، توقف عند حدود الأصالة والطيبة التي ساكنت أبناءها فأطلقت لديهم روحا وطنية عميقة الجذور، بالغة التمدد في المحيط اللبناني الشامل، ولم يكن غريبا أن تكون هذه المدينة المتأججة، أمّ الثورة الوطنية التي انفجرت بعمق وشمولية وكانت معلماً أرّخه اللبنانيون بكل فخر واعتزاز، وهم ما زالوا على ذكره والتمثل بقيمه الوطنية الشاملة وامتداداته إلى أعماق الوجود اللبناني بكل جهاته وفئاته، ومع الأسف، كان لتدخل أهل الطمع والجشع والفساد الخلقي والمادي، أثر بالغ في طمس معالم هذه الثورة وشدّها إلى التراجع والإنكفاء مستغلّين في هذا السبيل كل وسائل الوسخ الطائفي والمذهبي والمناطقي، حتى لقيل عن تلك الثورة المليونية التي اشتد وجودها ونشاطها في كلّ من بيروت وطرابلس وكل أرجاء الإنطلاق المقدام والشجاع في شتى المناطق اللبنانية، وجاءت أحداث طرابلس الأخيرة لتُذكّر اللبنانيين بأن الجوع والمرض والتخلف المادي والإجتماعي، يتشكل في وجودها وتطورها وآلامها المتمادية، ذلك الدافع الثوري الأول والأخطر وكم كان تنبيه المنبهين منذ بروز الإنحدارات الإجتماعية والحياتية البالغة، ومنذ أن أطلت رسمياً في مسيرة الأحداث اللبنانية وتأكدت من خلال توصيف هبوط البلاد والعباد إلى مرحلة «جهنم» التي أطلقها فخامة رئيس البلاد، وكانت توصيفا حقيقيا صائبا استمرت تداعياته إلى حدود الإنفجار الصاعق الذي وصل إلى أوائل ذرواته قبل بضعة أيام، وكانت طرابلس، القنبلة الموقوتة الكامنة في كل الأحياء والأرجاء، منطلقه الذي تحقق من جموع الجائعين الطرابلسيين، وكاد أن يتفرع ويتمدد إلى مواقع أخرى في هذه البلاد المتفجرة بطبيعة مكوناتها والعوامل العديدة التي تتحكم بمسيراتها. ولم يكن مستغربا على الإطلاق، أن يركب موجاتها الجائعة والمستغلة والمستفحلة، غرباء عن الثائرين الحقيقيين والمتحركين بكل اتجاه بطاقة مندفعة من بكاء أطفالهم وألم عائلاتهم، فإذا بالمستغلين الناشزين والشاذين يحوّلون التظاهرات والإحتجاجات السلمية التي نفذتها جموع الشعب الأساسية، إلى كل هذه الجموع الدموية التي طاولت المؤسسات الدستورية والبلدية ودار الفتوى والمحكمة الشرعية، بل هي قد أحرقت بعضا من تلك المؤسسات مستعملة في هذا التصرف غير المسبوق، قنابل المولوتوف والقنابل النارية وسواها من وسائل القتل والحرق العمد، بما لا يمكن تفسيرة إلاّ بكونه عملا مقصودا بأسلوبه ونتائجه وتوجهاته، ويبدو أنه قد تيسر لهذا التصرف الإجرامي عدد من الفئات والجهات المعروفة بدعواتها إلى انتهاج العنف المسلح، وإلى اللجوء إلى إحراق لمبنى البلدية التاريخي والمصنف بكونه مبنى تراثيا يستودع في بعض غرفه، وثائق هامة تبتديء من تاريخ إنشائه في العهد العثماني وتستمر عبر أزمان وأجيال، لتضم الوثائق الإنسانية لمعظم أبنية المدينة المنكوبة، وقد كانت عملية الإحراق المقصودة في أكثر من غاية وأكثر من صعيد، تستهدف مباني مؤسسات خاصة تعود إلى مواطنين هم في الواقع ضحايا المسيرات الصاخبة والمخربة. ولعل محاولات منع قوى الجيش من الوصول إلى أماكن التعديات الإجرامية خاصة تلك التي طاولت مبنى البلدية، هي خير دليل على مدى ما طاولته أعمال التخريب الحاصلة من سيّىء الأهداف والتصرفات. ومن الصعب أن تمر أعمال التآمر عليها مرورا يلغي العقاب الوطني والأمني المستحق.