قررت معظم البلديات، بالتنسيق مع أصحاب المولدات الكهربائية، توقيف المولّدات بعد منتصف الليل حتى الفجر. الخبر ليس كهربائياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً يتعلق بقدرة اللبنانيين على التعايش مع ارتفاع سعر المازوت. الخبر أمني بامتياز، بحسب ما تقول مصادر أمنية.
ففي لحظة تفلّت الأمن الداخلي في كل الاتجاهات، يأتي تقنين الكهرباء ليتحوّل إلى عامل أمني، ويشكل عامل ضغط يضاف الى كل عوامل الترهّل الأمني، الذي يؤدي في لحظة سياسية الى انفجار، ظاهره اجتماعي مبرر، وباطنه سياسي طائفي ومذهبي.
ما يحصل في طرابلس من لعب بالنار واستغلال مقصود في كل الاتجاهات لعناصر الفقر والحرمان، استغلال سياسي تمتزج فيه روائح الأحلام السياسية والرئاسية، لكن أدواته واقعية، وطرق استخدام الشارع، المأزوم أصلاً، صارت جليّة، بعدما أصبح عامل المال أكثر جاذبية بفعل انهيار الليرة. فالأموال التي يفترض أن ترصد لإنماء طرابلس، تتحوّل في أيام القحط السياسي وعلى أبواب استحقاقات نيابية وحكومية ورئاسية، إلى المعبر الأساسي لاستقطاب زعماء الأحياء والزواريب والأحياء المهمّشة، تحت ستار الأمن والمحسوبيات وشدّ العصب السياسي الانتخابي. والشارع المهيّأ لكل أنواع الاستغلال في كل الاتجاهات المحلية والإقليمية، لا يحتاج الى أكثر من علبة كبريت لإشعاله. فكيف إذا كانت هذه العلبة عبارة عن مئة دولار، وفوقها حماية أمنية وسياسية تظلّلها.
ليست طرابلس ــــ الأحياء المعدمة، النموذج الأكثر تعبيراً عن حالات مستنقعات الفقر المماثلة. لكنها اليوم تكاد تشبه مجتمعات الطبقات الوسطى، التي تتّجه بسرعة نحو قعر الهاوية الاجتماعية. وما أزمة الكهرباء والمحروقات إلا سبيل الى التفجير من الداخل، وانهيار الأمن الداخلي وسط غياب أي مؤشرات عن شبه مظلّة أمنية للحماية الداخلية. والانفجار بهذا المعنى لن يكون في وجه السلطة، إنما انفجار عشوائي متفلّت من كل الضوابط، يغذّيه غياب أدنى مقوّمات الأمن الوقائي والاستباقي.
منذ أن أقرّت سلفة الكهرباء الاستثنائية قبل شهر، لم تعد مشكلة التقنين القاسية على طاولة أي طرف سياسي، وكأن الكهرباء عادت فجأة 24 ساعة، في حين أن الأموال قبضت، والكهرباء لا تزال مقطوعة، ولم تعد خطب وزير التيار الوطني الحر وبيانات الانتقاد السياسي لأداء الوزارة والمؤسسة وقضية البواخر الكهربائية، في مقدمة الحدث. انتقلت المواجهة لتصبح بين الناس المحرومين من الكهرباء وأصحاب المولدات الكهربائية، الذين خاضوا سابقاً معركة مع وزارة الاقتصاد والغرامات التي فرضت عليهم في شأن العدادات والفواتير المرتفعة. مشكلة التقنين عبر المولدات الكهربائية، بصرف النظر عن المصالح الآنية، لها انعكاس أمني في ظل غياب الكهرباء على مدى عشرين ساعة في بعض المناطق، من دون أي حملة سياسية مضادة، تشبه على الأقل ما حصل يوم قررت وزارة الطاقة مدّ خطوط التوتر العالي في المتن، ويوم ثارت ثائرة حركة أمل في قضية المياومين. إبقاء الشوارع والمناطق من دون كهرباء ليلاً، هو الغطاء الشرعي لفلتان أمني في كل أنواعه، فيراكم أسباب الانفجار بسبب الوضع المالي وعدم قدرة الناس على إبقاء خطوط اشتراكهم قائمة، لتزيد من نسب الجرائم والسرقات، وخصوصاً في المناطق حيث البلديات لم تعد قادرة على تأمين دوريات الشرطة البلدية ليلاً، وحيث يغيب الأمن الرسمي بكل أجهزته، في كل البلدات جبلاً وساحلاً.
صحيح أن الأجهزة الأمنية مشغولة بترتيب أوضاع عسكريّيها وتأمين رواتبهم، لكن في حالة الانهيار الاجتماعي، تصبح مسؤولية هذه الأجهزة مضاعفة، وأولوية على ما عداها، فتتعدّى زيارة رئيس جهاز أمن الدولة السياسية الى دمشق، وتأمين الجيش رحلات جوية سياحية، وخروج وزير الداخلية على اللبنانيين مبشّراً بالانهيار، فيما عناصر قوى الأمن الداخلي مشغولون بحماية محطات المحروقات والمصارف، أو حملات مداهمة مصانع الكبتاغون لأسباب لها علاقة بالسعودية، أكثر مما هي أسباب محلية.
ما يحصل أمنياً، هو غياب شبه تام عن مفاصل الحياة اليومية للناس، من أبسط التفاصيل في عجقة السير الحالية «الأمنية»، وانفلات عشوائي لجيوش الدراجات النارية بحجة البنزين، وغياب الإشارات الضوئية وارتفاع نسبة حوادث السير، الى ارتفاع نسب السرقات. لا أجهزة قوى الأمن ولا أمن الدولة ولا الجيش، تتعامل مع الواقع على الأرض بما يستحق من خطورة. من طرابلس الى بيروت والجبل والشوف ومخيمات النازحين السوريين، والترهل المتنامي في مواكبة عناصر الانهيار، لا قطع الطرق فحسب. صحيح أن هناك تضامناً مع كل القوى الأمنية في ما يتعلق برواتب العسكريين، لكن الانهيار المالي يطاول القطاعين الخاص والعام من دون استثناء، وارتفاع نسب الجرائم والسرقات، تتحدث عنه هذه الأجهزة وتسجّله يومياً. أما ردود الفعل فلا تزال بطيئة وتحاكي أيام السلم لا أيام الانهيار. وكل جهاز يضع المسؤولية على الجهاز الآخر في تسلّم الأمن الداخلي والدوريات وتعزيزها، في غياب أي تعاون بين الوزارات المختصة من الدفاع والطاقة والداخلية والأشغال والنقل لوضع استراتيجية فعّالة لا تتعلق بحسابات سياسية. فمعالجة اليوميات الأمنية لا تحتاج الى مجلس أعلى للدفاع، بل تحتاج الى قادة وحسب.