انطلقت منذ أيام حملة إعلامية جديدة تستهدف طرابلس والشمال تحاول الإيحاء بأن هذا الجزء من لبنان يوشك أن ينسلخ عنه ويعلن «دولة مستقلة» وأنّ الفيحاء ومدن المحافظة وقراها خرجت على الدولة وأعلنت إغلاق «حدودها» مع ما تبقى من الأراضي اللبنانية، مع الدفع بتحريض واضح لاستدراج مؤيدين لهذه الطروحات بناء على ما يحصل من تهاوٍ لمؤسسات الدولة وانهيار للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
اللافت للانتباه أنّ هذه الحملة واضحة المصدر وقد تصدرها الأمين العام لـما يسمى «المؤتمر الدائم للفيدرالية» ألفرد رياشي الذي تحدث عن «معلومات موثوقة من جهات دولية»، تتحدث عن «التحضير لانفصال وبالتحديد مناطق عكار والضنية وطرابلس، لإنشاء جمهورية شمال لبنان، زاعماً وجود جهوزية لدى 3000 مقاتل مقربين من الجيش السوري الحرّ ومجموعات كبيرة قريبة من تركيا» بالتوازي مع «تعاون سوري تركي».
انتشرت في الوقت نفسه مقالات تتحدث عن غياب الجيش في طرابلس وعن عودة أشخاص مطلوبين منتمين إلى تنظيمات إرهابية، في محاولة لتصوير المدينة على أنها مستباحة ومنفلتة وأن الجيش اللبناني غير قادر على تأمين الاستقرار فيها، وهذا ما دفعنا إلى تقديم قراءة حول مستوى حضور الجيش في عاصمة الشمال، ومدى التقدم الذي أحرزه في تثبيت الاستقرار الأمني والاجتماعي.
صراع الأمن والفوضى في طرابلس
إعتبر كثيرون أنّ ما جرى في طرابلس يوم السبت 26 حزيران 2021 كان جولة عنف جديدة تشهدها طرابلس في إطار الانفلات الأمني الذي كان يحصل خلال السنوات والأشهر الماضية، لكنّ التدقيق في المشهد يعطي نتائج مختلفة ويوصل إلى حقائق جديدة تحتاج إلى المزيد من الوقت لتظهر بوضوح أمام الرأي العام. فالمختلف الآن هو إفشال «غزوة السبت» ومنع القائمين بها من تحقيق أهدافهم، فلم يستطيعوا إحراق أو اقتحام أيّ مؤسّسة عامة أو خاصة، بل سقطوا في قبضة الجيش، الذي بات يراكم بالنّقاط لصالح فرض الأمن والاستقرار، وتفكيك مجموعات التخريب والشّغب.
استرجاع لمحطات التخريب
للوصول إلى التدقيق في هذه المقدِّمة، لا بدّ من استرجاع محطات العنف السابقة، واستعراض نتائجها وتفاصيل التحركات اللوجستية وتقييم الموقف بعد ذلك، عن طريق المقارنة بين حجمِ ومنسوب أعمال العنف التي اجتاحت طرابلس، ويمكن للقياس استحضار محطات ثلاث:
– المحطة الأولى: إحراق المصارف أواخر شهر نيسان 2020: في هذه الواقعة، شكّل المخرِّبون قوّةً ضاربة تمكنت من اجتياح الشوارع ومحاصرة سرايا المدينة والفتك بالمصارف بشكلٍ همجي غير مسبوق، واستطاع هؤلاء المجرمون أن يوقعوا الأضرار في شوارع المدينة، وفي المحالّ والمؤسسات الخاصة، وتركوا طرابلس بعد غزوتهم تلك، قاعاً صفصفاً، فلم تسلم حتى الأرصفة، ولم ينج الشجر من الإحراق!
في غزوة المصارف، كانت أعداد المخربين بالمئات، فتوزعوا على مصارف المدينة في وقت واحد، وكان لديهم الوقت طوال النهار حتى منتصف الليل، واتسمت ممارساتهم بالهمجية المفرطة، وتحرّكوا في مجموعات منظمة وفق خطة واضحة، استهدفت مؤسسات المدينة الاقتصادية، واختلطت ببعض المتظاهرين وبالناس الذين ساحوا في الشوارع في غمرة الفوضى العارمة التي اجتاحت المدينة.
المحطة الثانية: إحراق بلدية طرابلس ومحكمتها الشرعية يوم ٢٩/٠١/٢٠٢١. في هذه الواقعة، كان المخرّبون يتحركون بأوامر غرفة عمليات واضحة، تديرهم وتعطيهم الأوامر وتتولى مراقبة حركة دوريات الجيش، وتعطي المجموعات المشاغبة التوجيهات، وعملت على استهداف بعض المقارّ الأمنية، وخاصة مخفر التل.
في كلتا الواقعتين، كانت بصمات «سرايا المقاومة» واضحة، سواء من حيث الخلفيات أو الاستثمار أو حصد النتائج.
الحدّ الفاصل بين الفوضى والاستقرار
ولنفهم الاختلاف بين ما حصل في سبت 26 حزيران وغزوتي المصارف والبلدية، لا بدّ من التوقف عند ما حصل أواخر شهر أيار 2021، عندما ثبّت الجيش اللبناني نقطة التحوّل الأمني الأهمّ، ومنعَ الفتنة التي كانت متوقعة بسبب الاستفزازات المرافقة للاقتراع لبشار الأسد، وحصر التحركات وقمع شغب الشوارع وأوقف الاعتداءات على المراكز الحزبية (الكتائب والقوات)، وطارد المخرّبين واعتقل أصحاب مخازن السلاح المأجور، وَوَضَعَ حداً لكلّ أشكال الفلتان الأمني، مُرسياً مرحلة جديدة من علاقة الجيش بطرابلس.
محطة الظهور المسلح
شهد يوم الأربعاء 30 حزيران 2021 محاولة جديدة للتفلت وإشاعة الفوضى في طرابلس، بدأت بضخ إشاعات كاذبة حول وفاة «طفلة الأوكسيجين» ونشر صورة مركبة لرجل في سوريا يحمل طفله المصاب، بعد وضع قناع الأوكسيجين على وجهه، وإطلاق حملات منظمة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو إلى حمل السلاح بعد فقدان الغذاء والدواء والمحروقات.
بعد هذه الحملة ظهرت مجموعات مسلحة باشرت بإطلاق النار في مناطق طرابلس الشعبية، وكانت تحت إمرة سياسية موحدة، تحمل اللون الأزرق، ولاقتها مجموعات أخرى محسوبة على تيار العزم، بينما تولت مجموعات ما يسمى سرايا المقاومة سكب الزيت على النار وتسعير الأجواء في وجه الجيش.
تحالف الزعران السياسي ضد الجيش
من هذه النقطة ننطلق لتقييم مجمل الواقع الأمني في الفيحاء، لنسجل الآتي:
– إنّ المجموعات المخرِّبة ومن يديرها أدركوا أنّهم سيكونون أمام سلوك مختلف من الجيش، وأنّهم لن يكونوا مطلقي الأيدي في ضرب المدينة، لهذا اتبعوا أسلوب التخفّي والتلطّي بـ«الثوار»، ليضربوا صورة المحتجّين السلميين من جهة، وليُحرجوا الجيش في كيفية التعامل معهم، فهوية «الثورة» تعطي نوعاً من الحصانة المعنوية لدى الناس، فاختلط حابل الاحتجاجات بنابل التخريب.
لكنّ هوية المخربين سرعان ما انكشفت، من خلال ممارساتهم التي استهدفت المؤسسات العامة والخاصة، محاولين إحراقها وتخريبها، وهو خطٌّ أحمر وقف الجيش في وجهه بقوّة، فطارد المعتدين على الأملاك العامة والخاصة ولاحقهم في الشوارع ومنعهم من تنفيذ خطة التخريب.
– إنّ جولات التخريب الأخيرة لم تنته كسابقاتها لجهة ترك القائمين بها بدون ملاحقة، فقام الجيش بمتابعة المنخرطين في الشغب، واعتقل المشتبه بتورطهم في التخريب.
فشل المخربون في تحقيق أيّ هدف ذي جدوى، فلم يستطيعوا اقتحام أي مقرّ حكومي، وفشلوا في إحراق أو تدمير أيّ محلٍّ أو مؤسسة خاصة، نتيجة الإجراءات الصارمة التي اتخذها الجيش بشكلٍ فوريّ عندما تصدّى للتحدي الذي حاول محرِّكو هذه المجموعات تحقيقه على حساب الأمن والاستقرار في طرابلس.
يمكن توصيف ما يجري بأنّه «تحالف الزعران» في وجه الجيش والناس. فالمحرك السياسي لكثير من مجموعات الشغب التي فقدت غطاءها الأمني مع سياسة فرض الاستقرار التي يعتمدها الجيش في طرابلس، يحاول استدراج مخابرات الجيش للتعاطي معها، بافتعال دور لها في تهدئة الشارع لاستعادة التعاون مع المؤسسة العسكرية.
في خضمّ هذه الأحداث، يمكن تسجيل تطور خطر هو إلقاء قنابل على عناصر الجيش وقوى أمنية أخرى، يوم «السبت الأسود» وهذا تصعيد نوعي يؤشّر إلى اختناق من يقف وراء المخرّبين، ورسالة إلى قيادة الجيش في الشمال، من قوى متضرِّرة من سياسة الجيش الطارِدة لـ«الزعران» والرافضة تغطية مجموعات اعتادت الاستظلال بالعباءة العسكرية تحت عناوين مختلفة.
بهدوء وثبات، يتقدّم الجيش ليوسع دائرة الأمن والاستقرار في طرابلس، مُضَيّقاً الخناق على فئات ثلاث أصبحت أشبه بحلفاء موضوعيين:
– سرايا المقاومة، بخلفيتها المدعومة من «حزب الله».
– مجموعات الشوارع التابعة، تمويلاً وتنفيذاً لبعض التيارات السياسية.
– مجموعات المرتزقة التي تتحرّك حسب التمويل، بغضّ النظر عن البعد السياسي والأمني للجهة المموِّلة.
يظهر هنا التخادم السياسي بين الفئات الثلاث والتي اشتركت أطياف منها في أحداث السبت، عندما قاموا بالمهمة ذاتها التي كانت تقوم بها «السرايا» في الغزوات السابقة.
الاحتضان المتبادل بين الجيش والأهالي
لا يقتصر دور الجيش على فرض الأمن، بل إنه يولي الحالة الاجتماعية الضاغطة أهمية واضحة، فهو دأب على مدّ يد المساندة للمناطق الشعبية، سواء بتأمين مادة المازوت لمولدات الكهرباء أو توزيع المياه والمساعدات التموينية، فضلاً عن التواصل المباشر بين قيادة الجيش في الشمال وبين المواطنين، وهذه ظاهرة تركت ارتياحاً كبيراً في الشارع، لأنها عكست الانفتاح وإرادة التعاون مع أهل المدينة.
لا مكان لدعوات الانفصال
لا يخوض الجيش صراعاً سياسياً مع أحد، لكنه في طريقه إلى تثبيت الاستقرار سيجرف في طريقه كلّ من يحاول تخريب الأمن، على قاعدة تطبيق القانون، فمن يقف في صف القانون يكون في صفّ الاستقرار، ومن يحاول إعادة نشر «الزعران» بأثواب جديدة، يكون في موقع التخريب.
أما الدعوات إلى الانفصال فلم يسمع بها أبناء طرابلس وسنة الشمال ولبنان عموماً، رغم المظلومية الكبيرة والمزمنة التي تلقوها من دولتهم، لكنهم يبقون أهل الدولة وعمودها الفقري، وسند جيشها الوطني، وستسقط كلّ محاولات الاستدراج والإغراء والتحريض، فلا مكان لها في الشمال