تستيقظ كوابيس طرابلس هذه الأيام دفعة واحدة وتحضرُ الهواجسُ مجتمعة في أوساط أهلها الذين تتكاثر عليهم الكوارث، العامّ منها والخاص، وآخر تجليات هذه المعاناة الأزمة الصامتة والحادّة، «اختفاءُ» ما يزيد عن المائة من أبنائها في ظروف ملتبسة وغامضة، مع عودة النشاط إلى خطوط تهريب البشر بين لبنان وسوريا، وتجدّد نشاط التنظيمات المتطرفة في استقطاب الشباب إلى بؤر التوتر في الإقليم، وتأكيد وجود شبكات تعمل بشكل مكثف على الدفع بأعداد كبيرة من العناصر إلى شمال لبنان، في إطار ما يخشى أن يكون مشروعاً شبيهاً بما سبق «تفريخه» منذ «أحداث الضنية» مروراً بتنظيم «فتح الإسلام» وما تلاه من صدامات شملت المنية وعرسال وعبرا.
كيف اختفى مئات الشباب؟
كان الشيخ مصباح نزيه الحنون أول من تحدث عن هذا الموضوع، حيث نشر يوم الثلاثاء 2 تشرين الثاني 2021 على صفحته على فيسبوك منشوراً قال فيه:»ماهي مصلحة الأجهزة الأمنية في التعامي عن التحاق عشرات الشباب وأغلبهم دون الثامنة عشرة بتنظيم داعش؟!
هل هو مشروع لتفريغ طرابلس من الشباب كرمى لعين «حزب الله»؟! أم أنّ ذلك خدمة للحزب والنظام لضرب إدلب داخلياً من خلال إرسال الشباب ليفجروا أنفسهم بـ«المرتدين»(!) تمهيدا لاقتحامها وقد باتت عصية على النظام والحزب؟! وكيف تصل الأموال للشباب وكلهم فقراء أبناء فقراء وتصل كلفة تهريب النفر الواحد إلى أربعة آلاف دولار؟! هل حزب إيران والأجهزة اللبنانية يجهلان مايجري أم أنها إرادة الحزب لزج شبابنا في أتونات الموت وحرق قلوب ذويهم عليهم؟!».
ونصح الحنون «أهالي الشباب أن يخرجوا من صمتهم ويتكاتفوا للوصول لحقيقة من هم وراء ارسال شبابنا لداعش وهم بهذه المدة عشرات كثيرة.. ولا حول ولاقوة إلا بالله ..ولعنة الله على المتاجرين بدماء شبابنا وبمشاعر أهلهم.»
وختم الحنون بالقول:«كم هو ظالم لا يخاف الله من غرّر بشباب في ربيع عمرهم وسلبهم من أهلهم بعد تربية عشرين سنة ليقذفهم في أتونات الموت دون تفويض من الأمة لينوب عنها في جهادها أعداء الله، بل جهادهم كله صبّ في صالح أعداء الله.. فأي خطف وسرقة أخبث من هذا العمل، يستغلون الأوضاع الصعبة فيغرون الشباب ويخطفونهم «.
معلومات أساسية
وفي متابعة هذه القضية، وبعد التواصل مع عدد من المشايخ المتابعين للملف ومسؤولين في الأجهزة الأمنية والمتابعين وأقرباء الشبان المغادرين إلى سوريا أو المختفين، تبين الآتي:
أنّ عدد الذين اختفوا كبير وقد يتجاوز المائة شاب، أغلبهم من حزام القبة، التبانة والمنكوبين وادي النحلة، التي يعاني أهلها صدمةً كبيرة جراء هذا الحدث، وتشير إحصاءات أمنية إلى أنّ قرابة 750 شاباً قد تسربوا من الشمال خلال أقل من سنتين، العدد الأكبر منهم في الشهور الأخيرة.
أنّ هناك خطاً للتهريب يجري استخدامه، يتقاضى فيه المهربون 4000$ على الشخص، ويحظى بتغطية أمنية واسعة داخل الأراضي السورية، وبتغطية الأمر الواقع داخل الأراضي اللبنانية.
عُرف من الذين «اختفوا» مؤخراً كلٌ من: (إ.م)، (أ.ع)، (أ.أ)، (إ.ع)، (ع.أ)، (ع.ن)، (أ.ه)، (أ.د)، (ح.ع)، وهناك العشرات ممن يحرص ذووهم على إخفاء هوياتهم لعلهم يسترجعونهم بدون المرور عبر قنوات الدولة وقضائها العسكري.
أنّ الخارجين إلى سوريا لا يقتصرون على الشبان الملتزمين دينياً، بل فيهم أعداد من «الزعران» ومتعاطي المخدرات، جرى استقطابهم في إطار التغييرات التي يحدثها تنظيم داعش لتطوير آليات الاستقطاب والتجنيد لديه.
ليست هذه المرة الأولى التي تحصل فيها حالات خروج لشبان من طرابلس وعكار إلى سوريا، بل هناك خط دائم النشاط، يجري خلاله إدخال أعداد من هؤلاء إلى معسكرات داعش للتدريب والعودة إلى لبنان بعد المبايعة والتزام المهام وتحديد آليات التواصل، ويعمل هؤلاء مع المجموعات غير اللبنانية المطلوب تواجدها في طرابلس وعكار.
كيف بدأت الموجة الحالية من الخروج إلى «داعش»؟
الموجة الأولى: بعد اغتيال العنصر السابق في مخابرات الجيش أحمد مراد (أبو زياد) بتاريخ 23/8/2021، حصلت اعتقالات في صفوف المتورطين في العملية، وكانت مناسبة لشن أوساط المتطرفين حملة تحريض وتخويف للشبان المتأثرين بالأفكار المتطرفة، مما دفع بحوالي 15 شاباً إلى المغادرة إلى سوريا.
الدفعة الثانية بدأت تغادر من 1 إلى 20/10/2021 وهي الأكبر، وضمت قرابة الخمسين شخصاً، وحسب مصدر أمني، فإنّ 30 منهم وقعوا في قبضة النظام السوري.
الدفعة الثالثة من الشبان الذين يقول ذووهم إنهم اختفوا وبدأ الإعلان عن اختفائهم منذ يوم الخميس 28 تشرين الأول 2021، وهي التي يدور حولها اليوم البحث في طرابلس.
أكّدت مصادر أمنية أنّ الشبان الذين «اختفوا» وصلوا فعلاً إلى مناطق تنظيم الدولة والتحقوا بصفوفه وراسل كثيرون منهم ذويهم و»طلبوا منهم السماح»!
هناك توقعات بوقوع ارتطام أمني كبير نظراً لتوافر المعطيات حوله، لكنّ الخشية تبقى من عدم نجاح الخطوات الاستباقية في إحباط هذه التوقعات، مع وجود قناعة بأنّ كل ما يمارس في الشارع السني هو لإعادة جوّ موبوء لأنّ الأطراف الأخرى محشورة في ملفات كثيرة، وتريد نقل الصراع وتحويله سنياً مسيحياً، من خلال مشروع تطرّف يجري إنضاجه لاستهداف الوجود المسيحي في المناطق السنية.