طرابلس تنزف أبناءها (3)
منذ أن شهد العراق خسارة الحشد الشيعي في الانتخابات النيابية، باشرت إيران فتح خطوط التهريب الواسع النطاق من جديد، وتسارعت عمليات الاستقطاب والتجنيد، بينما سجل المتابعون لهذا الملف رابطاً بين الاستنفار الإيراني الحاصل وتحريك المحكمة العسكرية في إصدار الأحكام القاسية بخلفية سياسية واضحة، وتقاطعت هذه التحرّكات مع التحضير لعملية عسكرية في الشمال السوري ضدّ القوات التركية وحلفائها تهدف إلى بسط سيطرة النظام وإخراج تركيا من المعادلة السورية.
العوامل المؤثرة في دفع الشبان للالتحاق بتنظيم الدولة
الأوضاع المعيشية شديدة الصعوبة وانسداد الأفق أمام الحلول واليأس من إمكانية إيجاد عمل لشريحة قليلة التعليم ومحدودة الكفاءة.
الأحكام القاسية والمغلّظة الصادرة عن المحكمة العسكرية بحق الموقوفين أمامها، وخروج أشخاص أبرياء بعد احتجاز 7 و10 سنوات، مما يجعل القضاء عامل اضطهاد وتيئيس لهذه الفئة تحديداً.
وجود ملاحقات أمنية بحقّ أعداد من الشبان والخوف من الاعتقال وبالتالي الخضوع لأحكام طويلة، دفع بهؤلاء للهرب إلى سوريا.
تقديم تنظيم داعش مخصصات مالية بالدولار للملتحقين بصفوفه تصل إلى 600 دولار شهرياً، وهذا يعتبر عامل جذب بالنظر للأزمات المتفاقمة في لبنان.
إغراء الشبان بالمال وبالزواج السهل، خاصة أنّ أعمار الشباب «المختفين» تتراوح بين 16 و25 وقسم كبير منهم تحت سن الثامنة عشرة، أي أنّهم ليس لديهم حتى جوازات سفر، ويحظون بمعاش شهري قيمته 600 دولار، حسب تقارير الأجهزة الأمنية.. وكانت المفاجأة أنّ «المنسق» الأبرز لتهريب الشباب كان امرأة تبلغ من العمر قرابة الخامسة والسبعين عاماً، استطاعت تجنيد عدد كبير من الشبان ثم تمكنت من المغادرة إلى سوريا، وقد سبقها ابنها عن طريق تركيا، وهي فلسطينية متزوجة من لبناني تدعى (إ.ب)، وكانت تتواصل مع الشباب وتحثهم على الالتحاق بتنظيم الدولة، وتغريهم بالزواج والمال.
أما العنصر الأهم في استقطاب الشباب فهو وجود منظومة إقليمية تقوم بتوفير البيئة المناسبة من الحرمان والتجويع والاضطهاد بالوسائل المحلية، مقابل المغريات والتسهيلات، لنصبح أمام حالة واسعة، تتجاوز الوعي والإدراك لشرائح تطحنها الأزمات وتحاصرها الهواجس الأمنية، لتصبح لقمة سائغة في تجارة البشر المزدهرة حالياً على خطوط الممانعة.
أسباب التفاهم التركي الإيراني
يدرك الطرفان الإيراني والتركي أنّ المواجهة بينهما مكلفة، وسبق للحرس الثوري و»حزب الله» أن تلقيا ضربة لا يسهل نسيانها في شهر شباط من العام 2020 عندما حاولت الميليشيات الإيرانية اقتحام إدلب، كما أنّ النشاط التركي في لبنان لا يمكن أن ينطلق بشكل فاعل من دون التفاهم مع «حزب الله» المتحكم بمفاصل الدولة، خاصة أنّه واجه عقبات كبيرة حالت دون انطلاقه عقب تفجير مرفأ بيروت، ولا تزال بلدية طرابلس المحترقة بلا ترميم رغم الإعلان التركي عن الاستعداد لترميهما كنموذج لتلك العوائق.
ولعلّ هذا، مع عوامل أخرى أيضاً في إطار المصالح الإقليمية، ما فرض على الطرفين التوصل إلى تفاهم، يستفيد مما يراه البعض فراغاً تركته السعودية في لبنان.
معركة إدلب: هل توقفت؟
أوضح مرجعٌ أمني أنّ السبب الأساس وراء تسريع تجنيد الشبان السنة في طرابلس والشمال في الأشهر الماضية، هو أنّ النظام السوري و«حزب الله» قرّرا خوض معركة حاسمة ضد الوجود التركي في سوريا من خلال دفع تنظيم «داعش» إلى الواجهة، مقابل الدعم التركي لهيئة تحرير الشام و«الجيش الوطني» في مناطق سيطرة أنقرة داخل سوريا. وكشف المرجع وجود طرق تهريب تحظى بتسهيلات النظام السوري و«حزب الله» تسمح بخروج شبان بين 16 و25 من العمر، من طرابلس إلى مناطق «داعش»، مروراً بمناطق النظام السوري من دون أي عائق، وهذا يؤكد أنّ ما يجري هو ضمن خطة استقطاب آلاف الشبان السنة من لبنان وسوريا والعراق، لتحويلهم إلى وقود في معركة النظام والحزب، بواسطة تنظيم داعش.
لكنّ المتابعين للسياسة التركية يتوقفون عند زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو لطهران في 15 تشرين الثاني الجاري حيث تركزت المحادثات على «تعزيز التعاون الإقليمي» بين إيران وتركيا، وهذا ما انعكس في زيارة أوغلو في 16 من الجاري إلى بيروت حيث ظهرت معالم انفتاح ذات مغزى من السلطات اللبنانية المكونة من تحالف «حزب الله» مع الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر تشير إلى توسيع الحضور التركي في لبنان في المرحلة المقبلة.
ما يعنينا في سياق المقال ما تسرّب عن سعي السلطات التركية لاحتواء التحضيرات الجارية لفتح معركة في إدلب ضد قواتها والمجموعات الموالية لها في الشمال السوري، عن طريق حشد مجموعات تابعة لتنظيم داعش، بتسهيلات من «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني والنظام السوري.
وفي إطار ترتيب المصالح الإقليمية، توصّل الأتراك والإيرانيون إلى تفاهمات حول الوضع في سوريا ولبنان، يجري بموجبها تجنّب المواجهة العسكرية في الشمال السوري، ووقف توجيه المجموعات الداعشية نحو إدلب، وتعطيل فتيل الصدام، في إطار ترتيبات أوسع تشمل تقاسم النفوذ في لبنان وسوريا، ليبقى السؤال: ما هو مصير مئات الشبان الذين غادروا البلد والتحقوا بتنظيم الدولة. هل سيبقون في سوريا أم ينتشرون في الأرض وصولاً إلى أفغانستان، أم يعودون إلى لبنان، وكيف ستكون هذه العودة وعلى أيّ أساس، خاصة أنّ التفاهم التركي الإيراني يفترض تحييد المناطق السنية في لبنان عن نشاط المنظمات الإرهابية، في إطار الحفاظ على الاستقرار في البلد في إطار المساعي التركية الهادفة إلى تحييد السنة عن تداعيات الصفقات الجارية في الإقليم.