Site icon IMLebanon

الكورونا أمامنا والجوع خلفنا

 

الأسواق الشعبية في طرابلس

مشهدان متناقضان في مدينة واحدة. 85 في المئة من الطرابلسيين التزموا قرار التعبئة العامة، فيما 15 في المئة منهم زاولوا نشاطاتهم فبدا المشهد في “أم الفقير” نافراً. لنقف قبالة “قصر الحلو”، أحد المعالم الأشهر في طرابلس. ثم نشيح بوجهنا يساراً نحو شارع الكزدورة والذي منه نلج شارعي عزمي والضم والفرز، ونتمعّن في المكان. إنه المشهد الأول: الحياة شبه متوقفة. المحال مقفلة والشوارع شبه خالية. وقت مستقطع ثقيل يحبس أنفاس هذا الجزء من المدينة.

لا شيء ينبض. الكل مختبئ في حَجره الذاتي طلباً للنجاة في حربٍ ضروس مع فيروس. ثم لنعد ونلتفت يميناً، نحو التلّ الذي تتفرّع منه الأسواق الشعبية. هنا المشهد الثاني: حياة مستمرة بيومياتها المعتادة. لا أحد يكترث للحرب، أو لنقل إن الحرب الأشرس هنا ليست مع كورونا، بل مع ما هو أشدّ فتكاً منه: “الجوع”.

 

زحمة أقدام متسارعة. بيع وشراء و”مفاصلة”. أصوات ترتفع تُنادي على بضائع وألبسة. فريدة هي طرابلس. وجوه أبنائها تبتسم رغم سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية التي ضاعفتها مخاطر الأزمة الصحية المستجدة. أبو هيثم “المعجوق” بتفريغ حمولة إحدى الشاحنات أمام باب محله في سوق الخضار في باب التبانة، يضحك عند سؤاله عن أسباب استمرار الحياة من دون هلع، قائلاً: “أجيبيني يا ابنتي، ما الأكثر خطورة فيروس يمكن أن تتعالجي منه أو رصاصة قنّاص؟”، مضيفاً: “شهد الطرابلسيون ما هو أفظع من ذلك. جولات عنف على مد عينك والنظر. في إحداها استمر هطول وابل القذائف فوق رؤوسنا لأيام. عشنا حجراً منزلياً في حينه، إلا أننا كنا نتنفس الصعداء بين الحين والآخر. لا أعتقد أن الطرابلسيين سيهلعون من مرض موسمي بيجي وبيروح!”. يصمت برهة. يحمل قفصاً من البازيلا الخضراء ويضعه في واجهة المحل، مردفاً: “إنه موسم البازيلا، أتعرفين؟ الكيلو منه بـسبعة آلاف وخمسمئة ليرة. دائماً “أول قطفة” من الموسم تُباع بسعر مرتفع وهنا يكمن ربحنا. بعد أيام قليلة يبدأ السعر بالانخفاض. على الرغم من ذلك هناك من يطلب منا إقفال محالنا والتزام البيوت ومراكمة الخسائر!”.

 

لا يكاد يُنهي أبو هيثم جملته حتى يعجّ المحل بالزبائن. يتهافت الناس على التزوّد بالخضار والفاكهة على أنواعها. يترك “الشغيل” معاونه يُلبي احتياجاتهم ويقترب مني ليهمس: “أنا لا أقول إن الفيروس ليس خطراً، ولكننا نحاول الوقاية قدر المستطاع، فبالنهاية يبقى بالنسبة لنا أسهل من الموت جوعاً”، متابعاً: “هل يُعقل أن أعود إلى أحفادي الخمسة مساءً، وأنا معيلهم الوحيد، وجيبي فارغاً؟ تطلقت ابنتي منذ عام تقريباً. زوجها عديم المسؤولية رماها مع أطفالها من دون أن يرف له جفن. ترك حمل إعالتهم علي. كيف أطعمهم؟ من أين أشتري الحليب لابن الستة أشهر؟ ما يطلبه منا المسؤولون بملازمة البيوت والتأمل في الجدران غير وارد. قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق يا ابنتي”. على غفلة يصرخ رجل، وقد كان يهب لمغادرة المحل: “معك كل الحق يا أبو هيثم. بوقاحة يطلبون من الناس أن تعيش على الخبز والزيتون. هل يستطعون هم أن يفعلوا ذلك؟”. طرح الرجل سؤاله ومضى حاملاً أكياس البقالة بين يديه.

 

بعض المحال في سوق الخضار ألزمت العاملين فيها بارتداء القفّازات والكمّامات الطبية، إلا أن ذلك ليس مفروضاً على الزبائن. الحركة عشوائية. يدخل ويخرج عشرات الأشخاص في آن واحد. وعلى بعد خطوات، توغلاً نحو عمق المحلة، بدا الالتزام بقرار التعبئة العامة نسبياً. عدد لا بأس به من المحال أقفلت أبوابها، فيما فتح البعض الآخر أبوابه طلباً لتأمين القوت اليومي، منها محال بيع الأجهزة الخلوية وبطاقات الهاتف مسبقة الدفع وبعض المقاهي المولجة بتقديم خدمة ديليفري النراجيل وبعض الميني ماركت ومحلات الـ “وان دولار”. أما حركة الطرق فتشي بأن الأمور على خير ما يُرام. سيارات أجرة كثيرة ودراجات نارية لا تُعد ولا تحصى. وكما هي العادة، لا يلتزم سائقوها بارتداء الخوذة ولا القفّازات ولا الكمّامة.

 

تفوح رائحة معسل النراجيل من مقهى أبو عمر. ينهمك هو بتحضير عشرات رؤوس النراجيل استعداداً لتلبية طلبات الزبائن. ينظر الشاب الملقب بـ”أبو عضل” نظراً لبُنيته الجسدية المفتولة بالعضل، إلى الساعة المعلّقة خلفه على الحائط، ويردف: “ثوان ويرن هاتفي. انا أعرف توقيت زبائني تماماً. جميعهم يدخنون النرجيلة بعد تناول أول وجبة طعام”. وقبل أن نطرح السؤال عاجلنا بالقول: “أكيد رح تسأليني عن كورونا وما كورونا”، مضيفاً: “أنا أعقم النراجيل خاصتي يومياً. قبل ظهور الفيروس كنت أقوم بذلك، لهذا السبب يفضلني ابناء المنطقة عن سواي، لأنهم يعرفونني “موسوس”. والآن مع ظهور الفيروس بت أرسل لهم نباريش بلاستيكية تُستخدم لمرة واحدة ثم ترمى في سلة المهملات. والحمدالله حتى الساعة لا أحد أصيب ولم تُنقل العدوى بسبب النرجيلة”. وعن عدم التزامه بقرار التعبئة العامة، يرد: “أنا ملتزم بالقرار. تعالي في أي وقت تريدين لن تجدي أحداً في المقهى، ولكن لا أستطيع أن أتوقف عن إرسال طلبات الديلفيري لأنني حرفياً سأموت من الجوع، فليس لدي مدخول آخر”.

 

يبدو موقف “أبو عضل” أقل حدّة من موقف جاره أحمد طبوش. يقف الرجل خارجاً ينفث دخان سيجارته ويعقد حاجبيه مردداً: “هلكونا بقصة كورونا وما في دولة بالعالم غير ما قدمت مساعدات للمواطنين، إلا دولتنا الكريمة”. بقنوط يحكي الرجل الستيني أسباب فتحه باب محله: “هذا المحل متخصص بصنع وبيع “كركات” إعداد ماء الزهر وماء الورد، وبهذه الأيام يحلّ موسمنا. نعوّل طيلة العام على المبيع الذي نحققه في هذا الموسم، فهل يعقل أن نرفس رزقنا الذي نعتاش منه؟ وما المقابل؟ لا شيء. علينا فقط أن نلتزم المنازل وننتظر الموت جوعاً”. قبل أيام أنذر عناصر من الجيش اللبناني أحمد بضرورة إغلاق المحل. كلما تذكر ما حدث يزداد توتراً: “المشكلة أن الدولة اللبنانية لا تأبه. تُدرك أن في طرابلس أعلى نسبة فقر على ساحل المتوسط، وأن الناس هنا لا تستطيع الاستمرار بالحجر من دون دعم وتحفيز، لكن لا أحد يكترث”، مضيفاً: “لو أعطت الحكومة 30 ألف ليرة لكل عائلة لبنانية لما تردد الناس في التزام البيوت. هذا أضعف الإيمان”.

 

غياب خطط بديلة داعمة ومحفّزة للمواطنين على التزام المنازل هو الحديث الأكثر تداولاً على ألسنة الطرابلسيين. عتبهم على دولة لا تلتفت نحوهم في عزّ الصعاب والشدائد وهذا الإهمال متعاقب من حكومة إلى أخرى وقد تخطى الحدود. برأي الشاب حمزة الحاج فإن “ضبط الأوضاع في الأسواق الشعبية للمدينة ليس بالأمر السهل. الناس هنا تعيش يوماً بيوم وتنتظر الرزق لساعات طويلة”، مشيراً إلى أن “ما مرت به طرابلس من أزمات ضاعف من معدلات البطالة والفقر فيها، ولا سيما مؤخراً عقب إقفال أكثر من 500 مؤسسة تجارية أبوابها في المدينة”. على الرغم من كون حمزة متطوعاً في هيئة الطوارئ لمكافحة فيروس كورونا، فتح محله لبيع الأجهزة الخلوية متذرعاً بأن “طلبات الزبائن هي ما دفعني إلى فتح الأبواب، ولكنني سأعود وأقفل غداً ليس التزاماً بالقرار الحكومي بل دفاعاً عن صحتي وصحة أبنائي”.

 

يوزّع حمزة ورفاقه كتيبات صغيرة على سكان الأحياء الشعبية في المدينة للتعريف بكيفية الوقاية من الفيروس، مع تقديم شرح مفصّل عن الخطوات المطلوبة لمواجهته وضرورة إجراء الفحوصات اللازمة فور الشعور بأي عوارض. ويقول: “منذ أسبوعين بدأنا العمل وزرنا غالبية المناطق الشعبية، وشددنا على أهمية النظافة الشخصية وضرورة أن يتحلى كل فرد منا بمسؤوليته الاجتماعية”، مضيفاً: “بعض الناس اقتنع بضرورة الالتزام بالحجر المنزلي، أما البعض الآخر فكان يضحك في سره ويرمي الكتيّب أرضاً ويمضي”.

 

من جهته، يوضح رئيس لجنة إدارة الكوارث في بلدية طرابلس المهندس جبيل جبلاوي أنه “لا يجب التعامل مع طرابلس على أنها قرية صغيرة أو بلدة نائية، فهي العاصمة الثانية للبنان وأكثر من 80 في المئة من أبنائها ملتزمون بالإقفال التام وملازمة المنازل”، مشيراً إلى أنه “من الصعب إقناع من يعملون كمياومين أو لديهم محال أو مهن حرة بالتزام البيوت من دون تقديم تحفيزات ودعم، لذلك فإننا أعددنا خطة إنقاذية لتوفير سلّة الأمن الغذائي للمواطنين الأكثر حاجة، تكفيهم لمدة أسبوعين على الأقل، ونحن بصدد عرضها على اللجنة المتخصصة في إدارة الكوارث في السراي الحكومي بعد الحصول على موافقة المجلس البلدي”.

 

وأضاف: “كذلك فإننا نسعى إلى إطلاق صندوق لجمع تبرعات لطرابلس سيكون تحت إشراف فريق مختص”، مؤكداً أن “سوء الأوضاع الاقتصادية في المدينة ليس نتيجة الأزمة الصحية الطارئة وتوقف الناس عن العمل بل هو مسار طويل عمره سنوات، إذ بحسب منظمة “الإسكوا” فإن نسبة الفقر في طرابلس لامست الـ60 في المئة، نصف هذا العدد يرزح تحت خط الفقر المدقع، وأن المدينة دخلت ديناميكية تؤدي إلى ازدياد الفقر فيها بشكل مضطرد بسبب غياب السياسات الاقتصادية الداعمة”.

 

ورأى جبلاوي أن “أكثر ما يساعد الطرابلسيين على تخطى هذه المرحلة هو التعاضد الاجتماعي في ما بينهم ومساعدة بعضهم البعض، فطرابلس مشهود لها بكرم وطيبة أهلها”.