أفظع ما تلا جريمة «زورق الموت» الطرابلسية هو مسارعة صناع الجحيم للمطالبة بالتحقيق، على اعتبار انه «أقل الواجب»، و»المحاسبة تُهدّئ الخواطر».
والأبشع في ادلائهم بدلوهم واستثمار الفاجعة، انهم يدعون الدولة، التي يتحكمون بها ويفصّلون قوانينها على قياسهم، الى تحمل مسؤولياتها.
وكأن أهالي الضحايا يمكن أن يقتنعوا باحتمال إحقاق الحق في هذه الجريمة دون سواها، بما يخفف من لوعتهم على من فقدوه مع مثل هذه المزايدات الصادرة عن مجرمين سخّروا القضاء في لبنان، وسخِروا منه، ومسحوا به الأرض.
بالأمس فقط، كانوا يشلون مجلس الوزراء بهدف قبع قاضي التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، وكانوا يهددونه في عقر دار العدلية، ونجحوا في شق صفوف المطالبين بمعرفة من قتل أحبتهم.
أكثر من ذلك، اعادوا ترشيح المتهمين الذين يرفضون الامتثال للقضاء، وكأنهم بذلك يغرسون خناجرهم في جراح لن يكتب لها ان تلتئم، ما داموا يتحكمون بالبلاد والعباد خدمة لأجندة مشغلهم وتنفيذاً لمشاريعه وطموحه الإقليمي.
لم يفكروا حينها بأن «المحاسبة تهدّئ الخواطر». أين كانت هذه المحاسبة في جريمة التليل، بكل ما رافقها من ملابسات تشي بتواطؤ الأجهزة والمهربين؟؟ أين كانت في مرفأ بيروت المفترض أن تصون الأجهزة أمنه؟؟
وقبل ذلك، لم يتركوا وسيلة دموية إلا واستخدموها للإطاحة بتحقيقات جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما سبقها وتلاها من جرائم متسلسلة. زرعوا شهود زور لتفخيخ التحقيقات، ومن ثم اتخذوهم ذريعة لنسف مصداقية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تخلصوا من غالبية المرتكبين على ضفتي حدودهم غير الشرعية.
هذا على مستوى القتل الجماعي، اما عن الجرائم المتفرقة، فهناك أيضا شواهد تؤكد مدى ازدرائهم للقضاء والتحقيقات، وليس أدل عليها غياب أي جهود في قضايا قتل هاشم السلمان ولقمان سليم وجو بجاني والمهندس جوزيف صادر، المغيَّب عند تخوم الضاحية الجنوبية لبيروت منذ عقد ونيف، والممنوع على أهله معرفة مصيره ليتعاملوا مع فقده…. و…ولا تنتهي القائمة حتى تقوم القيامة.
ومع هذا، لا بد لصناع الجحيم من الادلاء بدلوهم لمؤاساة «أهلنا في الشمال». لا يمكن تفويت المناسبة، وتحديداً عشية الاستحقاق الانتخابي، ولا بأس بالإعلان عن الجهوزية لتقديم «المساعدة» للعائلات، وكأن الهدف استغلال الفاجعة لإقناع من تخلت عنهم الدولة، بأن التصويت لحلفاء المحور هو البديل.
أما المعالجات الجذرية لأسباب المأساة، فلا لزوم لها، سواء في طرابلس او غيرها من المناطق اللبنانية.
فالمطلوب أن يبقى اللبنانيون منشغلين بالهموم الصغيرة، حتى لا يتسنى لهم التفكير بمصير بلادهم ومستقبلها. عليهم أن يفتشوا كل يوم عن ثمن ربطة خبز او علبة دواء. حينها لن يتمكنوا من المطالبة بالعدالة والسيادة ورفع الاحتلال ومكافحة الفساد.
وان تجرأوا، عدة الشغل حاضرة لإحراقهم على البر أو إغراقهم في البحر. ومثل هذه الكوارث لا تؤثر على السلطة التي يديرها صناع الجحيم المتحصنون خلف إمكانات مالية وعسكرية وتنظيمية مستقلة تماماً عن الدولة التي يدعون انهم جزء منها وأنهم من يحمي ويبني، ولديهم الحق بأن يتمثلوا فيها عبر انتخابات مفصّلة على قياسهم وتحت سطوتهم.
ولا علاقة لصناع الجحيم هؤلاء بالباحثين عن وطن وأمان وعيش كريم. فجهودهم تنصب أكثر فأكثر على الاتجاه المعاكس القاضي برفع منسوب الخوف والفقر والقلق.
حينها يديرون الفوضى بما يناسب مصالحهم وبما يؤمن استمراريتهم ليتحكموا بمن تبقى من المساكين العاجزين عن الفرار من جحيمهم، لأن السبل ضاقت بهم، فاضطروا للبقاء تحت رحمتهم.