IMLebanon

طرابلس مدينة العلم والعلماء والأغنياء والتعساء

 

ما زال الوضع مضطرباً في طرابلس الفيحاء، قصة هذه المدينة تعايش المآسي منذ زمن بعيد، وإن كانت قضيتها المستجدّة مع الزورق الذي حاول بعضٌ من أهلها الذين فقدوا كلّ أمل في استمرار بقائهم في مدينة استجمعت إليها كل صنوف المآسي الحياتية والمعيشية بما بات يرشحها إلى أن تفقد الغالبية الكبرى من سكانها، اللاجئون إلى غياهب البحر ويمثلون عيّنة من سكانها وحكايتهم المأساوية مع محاولة الهروب بذلك الزورق المشؤوم، بعد أن لمّوا إليه نساءهم وأطفالهم وهمومهم وعيشهم المأساوي، وحاولوا الإنطلاق بهم جميعا إلى حيث يتمكنون من إقامة حياة كريمة تؤمن لهم التنفس والعمل والبقاء على قيد الحياة، فكانت قصتهم مع ذلك الطرّاد التابع للبحرية اللبنانية، وكان نصيبهم منها، تلك المواجهة التي انقلبت إلى مجابهة مؤسفة وموِجعة أدّت إلى غرق الزورق واستشهاد العديد ممن كانوا على متنه. هو زورق الموت الزؤام الذي يُلخّص حكاية مدينةٍ استشهد أهلها أو كادوا منذ أمد بعيد دون أن تلقى مدينتهم ودون أن يلقوا معها أدنى صنوف التعامل الآدمي، بحيث باتت اللقمة والسكن والطبابة والدواء وكل مسالك ومطالب ومستلزمات الحياة الكريمة مفقودة ومتفاقمة، والغريب العجيب حقّا، أن يكون من بين أهلها وسكانها، جهات وفئات ممتلئة الجيوب بكلّ أنواع القُدرات المادية والرفاهية الحياتية والإمكانية القيادية. والغريب العجيب كذلك، أن مدينتهم ومنطقتهم تحفل بالإمكانات والثروات وأماكن الإستثمار ومراكز التطوّر الكفيلة بتأمين وضعية مزدهرة وأعمال صناعية وزراعية وموانيء متعددة الأحجام والإمكانيات وفي طليعتها ميناء طرابلس القابع بعيدا عن الإستثمار، دون أن ننسى معرض طرابلس وما كان ينتظره من بُعْدٍ عملاني إقتصادي، من المؤسف أنه راكد وسط مساحاته الشاسعة وإمكاناته الضخمة. ودون أن ننسى على وجه الخصوص، أن طرابلس عُرفت على مدى العصور، بأنها مدينة العلم والعلماء فإذا بذلك الزورق الأنموذج، يُبرزُ للعالم أجمع حصيلة من أبنائها القابعين في أحيائها الشعبية، وقد طغى عليهم كلُّ أمل بالحياة الطبيعية، في وقت تتحكم بهم وبمصيرهم العاثر، دولة مهترئة مفكّكة الأوصال، منهوبة الثروات والخيرات، زعماؤها وسياسيوها وقادتها، من مخلّفات الوراثة والتوريث الزعماتي. ومع كل الأسف، ما زالت هذه الفئة تتحكم بمصير الوطن كلّه، وسط استقصاد غريب لمناطق محددة منه وفي طليعتها معظم مناطق ومدن وقرى الشمال، وأُنموذجها الأمثل والأكبر والأوضح، طرابلس الحافلة بالمآسي التي تبرز في كلِّ الأحوال وكلِّ المناسبات، جموعا بشرية يملؤها الغضب، ويستحكم بها البأس والعوز، وتنتفض كرامة أبنائها كلَّ يوم وكلَّ ساعةٍ لأكثر من دافع ومن سبب. لقد وصلت إلى لبنان كله وإلى رأيه العام قصة ذلك الزورق الذي تعرّض له ذلك الطرّاد العائد للبحرية اللبنانية وأدّى إلى ما أدّى إليه من نتائج مأساوية ما زالت آثارها كامنة في غياهب الشاطيء الطرابلسي متمثلة بجثث الضحايا الذين طاولهم التصدي الغاشم، وأكثر ما يزعج في هذه الوضعية الرهيبة، تورّط بعض عناصر البحرية اللبنانية في تفاصيلها ومآسيها، الأمر الذي يخضع حاليا لجملة من التحقيقات الجادة، ذلك أن الجيش بالنسبة للبنان واللبنانيين عموما، يمثل أملا يكاد أن يكون فريدا ووحيدا في مجالات الإنقاذ والخلاص، ومنذ أمدٍ بعيد، وآمال اللبنانيين في أوضاعهم السيئة والعاثرة، تتجه إلى جهة بريئة من مثالب قياداتها وزعاماتها ورئاسائها، ومنذ أمد بعيد، وهي ترنو إلى مؤسستين لا ثالث لهما: الجيش وعماده من جند وقادة، وبصورة خاصة قائده الحالي الذي تتجه إليه الأنظار لتولي رئاسة هذه الدولة التي أصيبت بالثقوب القاتلة في معظم أنحائها. والمؤسسة الأخرى، القضاء العادل والمستقل، وهو إن كان مأمولا باستقلاليته وعدله وإقدامه، فهو مع الأسف يحتوي على عناصر بين صفوفه، معروف أصلها وفصلها وطرق تعيينها ونوعيات تصرفاتها.

لذلك، يزعج اللبنانيين كثيرا، تلك المثالب التي تطاول المؤسسة الأمنية الكبرى وقيادتها التي تستغل مأساة القارب الغارق وضحاياه، لتطلق العنان لتحريضها وشعبويتها ذات الطابع الإنتخابي الذي يغلي في كل انحائه، بكل أنواع التآمر والإصرار على إبقاء الحال المتفلت على ما هو عليه. طرابلس أحيت في اللبنانيين بعضاً من آمال الإنتفاض والمواجهة والمجابهة المؤدية إلى وطن سليم ومعافى، ومهما طال الوقت وصعبت الظروف لا بد لطرابلس، بل وللبنان بأسره من تلك العودة المنتظرة إلى دولة حافلة بصفات الدولة.

المحامي محمد أمين الداعوق