Site icon IMLebanon

لو ينطق البحر لأخبرنا أن القتلة الحقيقيّين هم مَن أوصلونا إلى هذا المأزق المعيشي

 

 

 

ضَحايا طرابُلسَ كغيرِهِم من الضَّحايا الذين سقطوا وسيسقطونَ على مَسرَحِ مُعتَقَلٍ اسمُهُ لبنانُ الكبير، فمُعظَمُ من فيهِ مَحكومٌ بالموتِ أمَّا الوَسيلَةُ والكيفيَّةِ فتُحدَّدُ على ضوءِ السُّلوكيَّات. المَوتُ قهراً لمن يتأفَّفُ مما يَجري من انتِهاكاتٍ وخزَعبلات، والموتُ قَنصاً لمن يُشارِكُ في الاحتِجاجِ أمامَ المَقارِّ الرَّسميَّةِ، والموتُ باقتِلاعِ الأعيُنِ لمن يُشارِكُ في الاحتِجاجاتِ أمامَ قُصورِ المَسؤولين، والموتُ سَجناً مع التَّعنيفِ لمن يُطلِقُ الاحتِجاجاتِ مُلمِّحا بفسادِ أيٍّ من المَسؤولين، والموتُ ألماً لمن يشتكي من نقصٍ في الدَّواء، والموتُ مُعاناتٍ مَرَضِيَّةٍ لمن يُطالبُ بالاستِشفاء، والموتُ جُوعاً لمن يتذمَّرُ من فقدانِ الرَّغيفِ أو ارتفاعِ أسعارِ رَبطَةِ الخُبز، والموتُ طَعناً بالسِّكينِ لمن يَحمِلُ دولاراً أو يتزيَّنُ بحلى ومُجوهَرات، والموتُ تَجمُّداً لمِن يَشكو نقصَ المَحروقاتِ لتوقي قرَّ الشِّتاءِ والموتُ اختِناقاً لمَن يشكو انقطاعَ الكهرباءِ لتوقي حرَّ الصَّيفِ، والموتُ بلَسْعَةِ أفعى أو خَوفاً من حَيوانٍ مُفتَرِسٍ لمَن يُحاوِلَ المُغادَرَةَ برَّا، والموتُ غَرقاً لمن يحاولُ الهرَب بحراً. وحدهم من  يرتضونَ العَيشَ بصَمتٍ ومن كرامَةٍ في لبنان هم المحظيون بطولِ العُمر.

 

اختَلَفَت انماطُ المَوتِ عَفوا القَتلِ في لبنان إنما السبَبُ واحدٌ والقتلةُ الحقيقيونَ إياهم، كُلُّ المؤشِّراتِ والمُعطياتِ والأدلَّةِ والقرائنِ تدُلُّ عليهم، إنَّما الضَّحايا المُفترضينَ من الشَّعبِ اللبناني المِسكينِ يتعامون عن المُجرِمين الحَقيقيين، بل ينسعونَ لتجهيلهم تارةً، وتبرئتِهم تارةً أُخرى بتبريرِ سُلوكِيَّاتِهِم ومواقِفِهم.

البَحرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ رغمَ قساوةِ المُصابِ كان رؤوفاً بضحايا اليَختِ أكثَرَ من رأفةِ المَسؤولين اللبنانيين بضحاياهم الأبرياء، إذ أعادَ مُعظَمَهُم أحياءَ وأعادَ جُثَثَ بعِضٍ آخرِ، أمَّا المسؤولونَ في لبنانَ فلهفوا كُلَّ ما استطاعوا الوصولَ إليه من أموالٍ وثَرَوات. ذنبُ ضَّحايا القارَبِ أنَّهم سَعوا للهَرَبِ من طُغيانِ الحُكَّامِ وجَورِ المَسؤولينَ أو تَحرُّراً من نيرِ الاستِعبادِ والإستِكرادِ والإذلالِ والتَّجويعِ والقَهر. ذنبُهُم أنَّهم شُجعانَ غامَروا بأرواحِهم وبأرواحِ أفئدتِهم الذين اصطحبوهم، على الرَّغمِ من أنهم يعلمونَ أنَّهُم قد لا يستطيعون الدُّخولَ إلى بُلدانِ المَقصَدِ ولكن فاتَهم انَّه قد تلسَعَهُم نارُ الجَحيمٍ التي بُشِّروا بسَعيرِها في وطنِهم. ذنبُهم أنَّهُم فَضَّلوا العَيشَ بكرامَةِ خارِجَ حدودِ الوَطنِ على أن يعيشوا من دونِ كرامَةٍ  في وَطنٍ يُعاملونَ فيهِ كلاجئين. ذنبَهم أنَّهُم استَشعروا أن أيَّ مَكانٍ يلجؤون إليه سَواءَ في السَّماءِ أم على الأرضِ سيكونُ بالنِّسبةِ إليهم أكثرَ رأفةً من السُّلُطاتِ المُلجَةِ بحِمايَتِهِم وصَونِ حُقوقِهِم، ذنبُهُم أنَّهم يعلمونَ أن حُكَّامَهم لا يَعرفونَ الرَّحمَةَ، ورغمَ ذلك تجرؤوا على مُحاولةِ الإفلاتِ من قبضَتِهِم، ذنبُهُم أنَّهم سَعوا للتَّخلُّصِ جَورِ حُكَّامٍ ماتَت ضَمائرُهُم، وعَمَت أبصارُهُم، وصُمَّت آذانُهم عن كُلِّ ما حَصلَ ويَحصلُ لشَعبِهِم، حُكَّامٌ لا يأبهونَ لما هو آتٍ من وَيلاتٍ ومَصاعِبَ بل يُبشِّرونَ بجَهنَّمَ وجَحيمِها.

عَجباً لمَسؤولين يَتباكونَ اليومَ على ضَحاياً هم أوَّلُ من ينبغي أن يُسألَ عن مَصرَعِهِم، سَواءَ سَقَطوا في البَحرِ أم على أرصِفَةٍ مرفأ بيروت، هم يعلمونَ أنَّهُم السَّبَبَ الرَّئيسيَّ، وإن يكن غيرِ المُابشِرِ الذي دَفعَ بمن كانَ على مَتنِ المَركَبِ المشؤومِ لمُغادَرَةِ لبنانَ  بعدَ أن مُنِعَت عنهُم جَوازاتُ السَّفرِ كما رُفِضَت طَلباتُ التأشيرَةِ التي تَقدَّموا بها شَرقاً وغَربَا علَّهُم يجدونَ بلداً تأويَهُم. هم أسرى مغلوبٌ على أمرِهِم كغيرِهم من أبناءِ هذا الوَطَنِ. لم يدركِ المهاجرونَ من وطَنِهم أن الفَرارَ خِلسَةً من الظُّلمِ والعَوزِ والجوعِ ِوبغفلَةٍ من السَّجَّانينَ والجلاَّدينَ خِلسَةً هو جريمةٌ دوليَّةٌ لا تُغتَفَر (هجرة غير مَشروعة).

طرابُلسُ الكليمَةُ استعادةِ اليَومَ ابناءَها وسيَحتَضِنُ تُرابُها  غَداً رُفاةَ ضَحاياها، وهي غَيرَ راضِيَةٍ ولا مَرضِيَّة، لأنَّ أهلَها كَشفوا قبل باقي اللبنانيينَ خُزَعبَلاتِ من هُم في السُّلطَةِ وأكاذيبَهُم ووعودَهُم ومُراوغاتَهم، وأقوالَهم التَّضليليَّة، ومناوراتَهِم الاحتِيالِيَّةِ لتَبريرِ سيِّئاتِ أفعالِهِم. أمَّا أهالي طرابُلسَ كعادَتِهم سبَّاقونَ في كشفِ كُلِّ المُخَطَّطاتِ التَّآمُرِيَّةِ التي يَنتهِجُها الحُكَّامُ لكَسرِ إرادَةِ الشَّعْبِ وللهَيمَنَةِ على مُقدِّراتِ الوَطَنِ، وتَقويضِ هَيبَةِ الدَّولَةِ ليَسهُلَ عليهِم سَرِقَةُ المَزيدِ من الأَموالِ، واكتِنازَ المَزيدِ من الثَّرواتِ المَشبوهَة.

ألم يحنِ الأوانُ بعد كي نتَعِظُ كشَعبٍ لبنانيٍّ من الأحداثِ المُفجِعَةِ التي تلِمُّ بنا، والتي لن تكونَ آخِرُها حادِثَةِ الزَّورَقِ المَشؤوم، هذه الحادِثَةِ الأليمَةِ، كغَيرِها مِمَّا سَبَقَها من كَوارِثَ كانفِجارِ بعضِ المَنازِلِ في الجَنوبِ وانفِجارِ خَزَّانِ البنزين في عَكار، وغيرِها من الكوارِثِ التي تَسبَّبت بها أيادٍ بشَرِيَّةٍ  نتيجةَ إهمالٍ أو قِلَّةِ احتِراز. وإن كان النِّسيانُ من طَبيعَةِ بني البَشَرِ فلَن نَنسى كارِثَةَ انفِجارِ مَرفأ بيروتِ والتي يتناساها كِبارُ المَسؤولين ويُحاولونَ طَمسَ مَعالِمِها، على الرَّغمِ  من أن عَصفَها أيقَظَ العالَمِ أجمَع إلاَّ ضَمائِرُ حُكَّامِنا، الذين صُمَّت آذانُهُم عن دَويِّ الإنفِجارِ كما عن أصواتِ الشَّعبِ المُطالِبَةِ بإصلاحِ النِّظامِ ومُكافَحَةِ الفَسادِ، والكَّفِّ عن التَّلاعُبِ في مَصيرِ المُواطنينَ والنَّيلِ من حُقوقِهِم وسَرِقَةِ أموالِهِم ومُدَّخراتِهِم وتعويضاتِ نِهايَةِ خِدمَتِهِم.

ألم يَحُنِ الأوانُ بعد للتَّيَقُّنِ من أنه لا خَلاصَ من أزماتِنا ومآسينا في ظِلِّ استِمرارِ إمساكِ الطَّبَقَةِ الحاكِمَةِ بزِمامِ السُّلطَةِ سَواءَ بانتِخاباتٍ صُوَرِيَّةٍ أم من دونِها، وأنه لم يَعُد من المَقبولِ بقاءَ أيَّاً منهم في أيِّ مَوقِعٍ في السُّلطَة، لأنَّهُم غير مُهيَّئينَ لا عِلمِيَّاً وغيرَ مؤتَمنينَ أخلاقِيّاً ولا إنسانِيَّاً للنُّهوضِ بهذا الوَطَنِ من المَأزَقِ الذي أوصولونا إليه.

 

أيُّها اللُبنانيونَ اتَّعِظوا مِما فاتَ من أحداثٍ أليمَةٍ ألمَّت بِكُم جَماعاتٍ وأفراد جَرَّاءَ عَدَمِ صَلاحِ من تَعاقَبوا على هذِهِ السُّلطَة، ولا تُرَجُّوا الخيرَ في أيٍّ منهم، ولا تُراهِنوا على ضَمائرِهِم لأنَّها في حُكمِ المَيتَة، ولا على صَحوَةٍ لأخلاقِيَّاتِهِم لأنَّها من الأساسِ مُنحَطَّةٌ وهابِطَة، بل عليكُم الرِّهانَ على أنفُسِكُم، وعلى مُقدِّراتِ أبنائكُم، وثَرَواتِ وَطَنِكُم، ولا تُراهِنوا كما يوهِمُكُم المُتسَلِّطونَ على أعناقِكُم أن الأوطانَ تَنهَضُ بسِياساتٍ ترقِيعِيَّةٍ مُرتَجَلَةٍ مَبنيَّةٍ على استِجداءِ المُساعَداتِ والتَّصرُّفِ وَفقَ مَنهَجِيَّةِ رَدَّاتِ الفِعل.

أيها اللبنانيون، وطنُكُم يُبنى بِفِكرِكُم وبِسواعِدِكُم وإبداعاتِكُم الخلاَّقَةِ وبناتِ أفكارِ الخُبُراء اللبنانيين المُنتَشِرينَ في لبنان كما في مُختلِفِ أصقاعِ الأرض. فإن أردْتُم النُّهوضَ والعَيشَ بكرامَةٍ، فما عليكُم سِوَى التَّخلُّصُ من هذه الطَّبقَةِ الفاسِدَة، وعَدمِ مُهادَنتِها، ورَفضِ تولي أيٍّ من رُموزِها وأتباعِهِم أيَّ مَنصِبٍ سِياسِيٍّ أو إدارِي.

أيُّها اللُّبنانيون، إن الحُقوقَ لا تُستَجدى، ولا تُصانُ فقط بالأُمنِياتِ ولا بالإقتِصارِ على التَّضَرُّعِ إلى الله عَزَّ وَجل رغمَ عظمتِهِ وجَبروتِهِ وعَدلِه، لذا عَليكُم أن تَسعوا وتُجاهِدوا وتُضَحوا في سَبيلِها. وعليكُم أن تعوا جَيِّداً أن في سُكوتِكم تَخاذُلٌ عن قيامِكُم بأدنى واجِباتِكم تِجاهَ أنفُسِكُم وأبنائِكُم ووَطنِكُم، عليكُم التَّحرُّكُ والتَّحضُّرُ نَفسِيَّا ومادِّيَّاً للمُقْبِلِ من الأيامِ، كما التَّجهُّزُ للعَودَةِ في القَريبِ العاجِلِ إلى السَّاحاتِ العامَّةِ تَعبيرَاً عن رَفضِكُم لِكُلِّ ما يُحاكُ ضِدَّكُم من مَكائدَ ومُؤامَراتٍ تَستَهْدِفُ النَّيلَ من حُقوقِكُم المَشروعَة، ومُستقبَلِ عِيالِكُم.

أيها اللبنانيونَ رَغمَ كُلِّ التَّضليلِ والإشاعاتِ التي يُسَوِّقُها رُموزُ السُّلطَةِ لتَغطِيَةِ إخفاقاتِهِم، لن يَطولَ الوقتَ المُتبقي لتَروا أنفُسَكُم مُنساقونَ سَوقاً إلى السَّاحاتِ العامَّةِ للتَّعبيرِ عن سَخطِكُم، ورَفضِكُم لكُلِّ مُناوراتِ السُّلطَةِ وألاعيبِها الرَّامِيَةِ إلى طَمسِ مَعالِمِ ارتِكاباتِها وجَرائمِها بحَقِّكم وبِحقِّ الوطن، ولأنَّكُم ستَكتشِفونَ عاجِلاً أن كلَّ ما يقومونَ به ما هو إلاَّ مُسكِّناتٌ لَكسْبِ الوَقتِ، ولتَمريرِ الانتِخاباتِ النِّيابيَّةِ التي هم بحاجَةِ لنتائجِها لاعتمادِها كسِتارٍ من المَشروعِيَّةِ تُبرِّرُ بقاءَهُم في مواقِعِهِم في السُّلطَةِ، وسِتراً  لتَبريرِ كُلِّ انتِهاكاتِهِم الجُرمِيَّة.

وها أنا أنبِّهُ اليومَ  من مَغبَّةِ ما نحنُ مُقبلونَ عليهِ في ظِلِّ السِّياساتِ التَّرقيعيَّةِ المُعتمدَةِ أن لبنان واللبنانيينَ سيكونانِ أمامَ هَولِ ما سينجُمُ عم المُماطَلَةِ والمُراوغةِ وشراءِ الوقتِ، والتي ستظهرُ جليَّةً مَعالِمُ فَشَلِهِا وإخفاقاتِها بِمُجرَّدِ انتِهاءِ الانتِخاباتِ النِّيابيَّة، وسنكونُ في مواجَهَةٍ مُباشِرَةٍ مع أزماتٍ اقتصادِيَّةٍ ومالِيَّةٍ ونَقدِيَّة حادَّة، على أملٍ ألاَّ يكونَ قد فاتَ الأوانُ ووَقَعَ المَحظورُ بإضاعَةِ ما أتيحَ أمامنا من فرَصٍ، وعندَ ذاكَ لن تنفعَنا عندَها ساعَةَ مندَمِ.

هي صَرخةٌ صادِقَةٌ أوجِّهُها لكُلِّ من لا تزالُ الغَشاوةُ تَعمي قلوبَهُم عن فَسادِ الطَّبقةِ الحاكِمةِ وارتِكاباتِ رموزِها وزُمرِها كي يَستفيقوا من غَفلتِهِم. أمَّا للأحرارِ الشُّرَفاءِ فأقولٌ لهم أن لا مُهادَنَةً تنفَعُ بعدَ اليومَ، وعَلينا استِقاءَ الدُّؤوسِ من أخطائنا التي شرذمت الحِراك، والسَّعي إلى بلورَةِ إيديولوجيَّةٍ ثورِيَّةٍ حَقيقيَّةٍ جامِعَةٍ، تَقومُ على رُؤيَةٍ وَطَنِيَّةٍ موحَّدَةٍ وموحِّدَة.

عميد متقاعد