عندما دخل الجيش اللبناني الى التبانة والقبة وجبل محسن قبل عام، إيذانا بانطلاق الخطة الأمنية، بدا الرهان كبيرا على ورشة انمائية تعوض ما فات ومصالحة سياسية تطوي صفحة جولات العنف السوداء الى غير رجعة.
التزم أبناء التبانة والقبة وجبل محسن بالخطة الأمنية وساهموا بإزالة بعض الدشم التي بنوها بأيديهم، وعاد التواصل تدريجيا في ما بينهم بمجرد رفع السواتر والأسلاك الشائكة التي كانت تفصل بين أحيائهم، ووفر الاحتضان الشعبي لحضور الدولة العسكري والأمني غطاء يتجاوز بمضمونه الغطاء السياسي الذي وفره أهل السياسة.
برغم ذلك، لم ينطلق قطار الانماء ولم تتحقق المصالحات. اقتصر الأمر على اجراءات عسكرية ورفع الغطاء عن «قادة المحاور»، فقام بعضهم بتسليم نفسه للجيش وأكثرهم من التبانة، وفرّ البعض الآخر الى جهة مجهولة، وغادر المسؤول السياسي لـ «الحزب العربي الديمقراطي» رفعت عيد الى سوريا قبل أن يصدر القضاء العسكري قرارا إتهاميا بحقه.
أفسح الاهمال المتعمد لأحوال الناس، أمام عودة الاستثمار السياسي والأمني وخصوصا في التبانة التي بقيت بلا إنماء، وبلا تعويضات، وذلك على وقع أحداث عرسال في آب المنصرم، الأمر الذي سمح لبعض مسؤولي المجموعات بالعودة على وقع التحريض المذهبي، لتشهد التبانة جولة عنف غير مسبوقة في 26 تشرين الأول الفائت إثر معركة الأسواق الداخلية، وقد نجح الجيش اللبناني في تفكيك ما تبقى من مجموعات مسلحة، وفر مسؤولوها الى جهات مجهولة وفي مقدمهم أسامة منصور وشادي مولوي.
أثبتت طرابلس مرة جديدة، ولا سيما التبانة التي تعرضت لدمار كبير، بأنها تقف الى جانب الجيش الذي دخل الى أحياء لم يدخلها من قبل وأقام فيها نقاطا عسكرية في ظل تعاون شعبي كبير.
وفي الوقت الذي لم تتوقف فيه المداهمات والتوقيفات التي أدت الى إعتراضات في صفوف الأهالي لكن من دون أية تحركات تصعيدية كما كان يحصل سابقا، استمرت الوعود الانمائية. فبعد مشروع دهن واجهات أبنية شارع سوريا (خط التماس التقليدي) باللون الأزرق بتمويل من «المستقبل»، أعلن الرئيس سعد الحريري قبل ستة أشهر عن هبة العشرين مليون دولار التي لم تصرف حتى الآن، فيما سارت الهيئة العليا للاغاثة في صرف التعويضات ببطء السلحفاة ما أدى الى اعتراضات من المتضررين.
ومع مرور سنة كاملة على تنفيذ الخطة الأمنية، تبدو التبانة ومعها جبل محسن على حالهما من الحرمان، ما يدفع الى التساؤل: لماذا لم تنطلق خطة الانماء؟ ومن الذي يعرقلها؟ وأين المشاريع الانتاجية التي تؤمن فرص عمل لأبناء هذه المنطقة واين المشاريع السكنية؟ وأين المصالحة التي وعدت الحكومة بالعمل عليها أو الانطلاق من المرحلة التي توقفت عندها في منزل المفتي مالك الشعار قبل سنوات؟ وأين الوعود بمسح صور الحرب عن الأبنية والمنازل والشوارع؟ وماذا يضمن عدم عودة الاستثمار الأمني والسياسي وبالتالي تجدد جولات العنف اذا استدعتها عوامل خارجية أو داخلية؟.
وإذا كانت المبادرة التي قام بها المجتمع المدني في طرابلس مؤخرا واحتضنها الوزير السابق فيصل كرامي وأدت الى جمع شخصيات وفاعليات وعائلات من طرابلس وجبل محسن في منزل الرئيس الراحل عمر كرامي، قد كسرت بعض الحواجز النفسية وأظهرت أن لا خلافات بين النسيج الطرابلسي الواحد، إلا أنها ما تزال تحتاج الى خطوات إضافية متقدمة بمشاركة كل الفرقاء.
ويمكن القول إن عدم شعور أبناء التبانة وجبل محسن بوجود الدولة إلا عبر العسكر، قد أعاد المخاوف من سيناريوهات أمنية بدأ الحديث عنها مؤخرا ولو بصيغة شائعات، خصوصا أن ثمة قناعة لدى الأهالي بأن غياب الانماء وعدم سعي الدولة لمسح صورة الحرب، يشكلان دليلا قاطعا على أن الوظيفة الأمنية لمنطقتهم لم تنته بعد، خصوصا مع عودة التوتر المذهبي الى لبنان على خلفية الحدث اليمني.