ليس قليلاً ما تعرضت له طرابلس في الأيام القليلة الماضية. الفقر المدقع في باب التبانة لم يكن ينقصه سوى التهجير ودمار الممتلكات، بعد فقدان الأرواح، حتى تكتمل فصول المأساة في البقعة الأفقر في لبنان. الجنون المسلح هناك مسؤول قطعاً، لكنه ليس إلا الظاهرة المرضية للداء المستفحل، والداء هو المشروع الإيراني الذي يحمله «حزب الله».
ليس في هذا التوصيف أي تجنٍ على هذا الحزب الذي يرفع راية مكافحة الإرهاب هذه الأيام، وكأنه نموذج للاعتدال، أو راية حفظ الجيش وكأن سلاحه ليس نقيضاً لسلاح الشرعية… من أراد التدقيق فليراجع الخطاب الإعلامي للمجموعات «الإرهابية». ما ينطلق منه هؤلاء المتطرفون عن الواقع اللبناني، لجهة سيطرة الحزب على البلد لا يختلف بالعمق عما يقوله الرافضون للمشروع الإيراني جميعهم. الفارق أن هؤلاء جنحوا نحو تطرف؛ يبررونه بعجز مستفحل عن تغيير الواقع، فيستسهلون الدم ثم يفشلون، وتدفع الساحة التي يدّعون القتال لأجلها مزيداً من الأثمان.
خطيئة، بل جريمة، رفع السلاح بوجه الجيش يبررها هؤلاء المتطرفون دائماً بهيمنة الحزب على الدولة ومقدراتها بما في ذلك الجيش. قد تحصل ارتكابات كثيرة لدى هؤلاء المتطرفين، لكن أصل الموضوع أن الحزب سعى وقد حقق نتائج كبيرة في هذا السعي- للسيطرة على البلد، ومن الطبيعي أن تنشأ ظواهر مضادة؛ تستلهم من استكباره تطرفاً، ومن إرهابه إرهاباً، ومن دمويته ذبحاً.
طرابلس كانت النموذج الأخير، لكنها للأسف ليست نهاية المطاف، لأنه على كل المناطق الرافضة لهيمنة الحزب أن تدفع الثمن، طالما وُجد المتطرفون، الذين يستمدون من ذلك الحزب خطاباً يجمع حولهم الأنصار، والمتحمسون الذين يسهل على الحزب توريطهم وزجهم في معارك تخدم مشروعه.
وللأسف؛ فإن المتطرفين ليسوا بحاجة إلى شروح كثيرة لنقل مجموعات إلى التطرف، فالمظلومية السنية حقيقة ملموسة، واستكبار الحزب واقع معاش، والكيل بمكيالين واضح بالنظر، وورقة المقاومة لم تعد قادرة على تغطية عورة القتال في سوريا، والإرهاب ليس تهمة سنية فقط، مع أنه كذلك بحكم واقع الاستقواء في لبنان.
أن ينافح «حزب الله» عن الجيش، ويطالب بدعمه؛ لا يعني أبداً أنه ليس هو بحكم واقعه وأفعاله ومكره- الذي يوقع الجيش في معارك تستنزفه، وأن يُظّهر إعلامه تطرف التكفيريين فهذا لا يعني أيضاً أنه لا يشبههم من وجوه كثيرة. هذه حقائق لا تنفع تغطيتها بالأوهام في معرض مقاربة الظواهر الإرهابية.
تدليلاً؛ لا بد من الاستفادة من التجربة العراقية، فقد أنفقت حكومة المالكي الطائفية أموالاً طائلة على حملات إعلانية ضد الإرهاب، بدعوى أنه إجرام لا دين له وهذا صحيح بالإجمال- لكن النتيجة لم تكن انحساراً للإرهاب، بل تولدّت دولة إرهابية كاملة، لأن الأقوال تبقى جوفاء إذا كانت الأفعال تعاكسها. أليس هذا هو حال الذين يتكلمون عن مكافحة الإرهاب في لبنان، قد مارسوه وما زالوا، قتلاً وخطفاً واغتيالاً؟! ما قيمة دعايتهم كلها، أمام الوقائع؟!.
وبما أن المشروع الإيراني والمشروع التكفيري وجهان لعملة واحدة؛ فإننا جميعاً ندفع الأثمان، جيشنا يدفع الثمن من أبنائه ومن هيبته. نسيجنا الوطني يدفع الثمن من انسجامه. اقتصادنا يدفع الثمن من رصيده، وبلدنا يتهدد بوجوده.
قد يستعلي حملة المشروع الإيراني أكثر، بأدوات مباشرة أو غير مباشرة، لكن ارتفاع منسوب المظلومية سيولد المزيد من الانسداد السياسي والجماعات الإرهابية.
عبرا وعرسال وطرابلس مجرد ظواهر كل منها أكبر مما سبقها. الظواهر المرضية ستتكرر طالما أصل الداء موجود، والكَي يُنهي العَرَض لكن الألم يعود طالما بقي المرض، وما لم تعالج جذور الفتنة والتطرف عبثاً نحاول.