لا يفارق الحزن طرابلس وجاراتها منذ سنوات، إلا أنّه خيّم ثقيلاً عليها في الأيام الثلاثة الماضية ولا يزال. بين مواكب التشييع لتسع ضحايا، وبين دموع الأمل في عيون مترقبة معرفة أخبار عن المفقودين، تكثر الأسئلة. أما الإجابات فمعدودة بما أن أغلب الذين اختاروا خوض هذه المغامرة تكتّموا على قرارهم
تضجّ طرابلس وعكار والضنيّة بالأسئلة عن مصير المفقودين، وعن أسباب غرق القارب، وعن المسؤولين عنه، وعمن يقف وراء عمليات الهجرة غير الشرعية، وعن المسؤولين عن انفجار الشارع الطرابلسي على شكل احتجاجات وأعمال عنف وشغب، أدّت إلى مواجهات مع الجيش اللبناني لم تعرفها المدينة منذ أيّام الحرب الأهلية.
الأسئلة كثيرة والروايات كثيرة أيضاً، أما الحقائق فتختصر بنتف من حكايات يتناقلها أهالي الضحايا والمفقودين والناجين في طرابلس وعكّار والضنّية. تفيد المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار» بأنّ شخصاً من آل دندشي اشترى القارب من منطقة جونية عبر وكالة بيع، وأنّ عملية الشراء تمّت بعد اتفاق عدد من العائلات كانت تنوي الهجرة بهذه الطريقة بعدما دفعوا مبلغ 50 ألف دولار ثمناً له، وتقاسم ركّاب القارب الذين بلغ عددهم 75 راكباً ثمنه، قبل أن يحدّدوا الساعة الصفر وموعد تجمّعهم ومكانه قبل إبحارهم. وذكرت المعلومات أنّ بعض الركاب كانوا يدفعون ما يتوجّب عليهم من مال في اللحظات الأخيرة قبل الصعود إلى القارب.
يعزّز صدقية هذه المعلومات أن معظم الركّاب ليسوا من الفقراء، بل هم مرتاحون مادياً، كما يقول أشخاص فقدوا أقرباء لهم كانوا على متن القارب. من بين هؤلاء، سمر قالوش، ابنة بلدة المجدل في عكار والموظفة في صيدلية هوشر في القبة، إذ إنها «كانت تتقاضى راتباً جيداً، كما أنّ ابنها المقيم في أميركا لم يكن يبخل عليها في شيء، وكانت تحضّر أوراقها للسفر إليه بعد شهرين، ما أثار الاستغراب حول سفرها على هذا النحو».
غير أنّ محمد سبسبي لم يكن مرتاحاً مادياً كما بقية ركّاب القارب، فهو عقد خطوبته على فتاة قبل ثلاثة أيّام من سفره، ووعدها بأنّه سيعود سريعاً إلى لبنان ليذهبا معاً إلى بلد آخر أفضل لهما من حيث العيش وفرص العمل وتأمين المستقبل، لكنّ الفتاة التي كانت قبل 3 أيّام تتقبل التهاني بخطوبتها على محمد، باتت اليوم تتقبل التعازي برحيله. ومثل محمد، كان هناك على متن القارب عامل تنظيفات، وأجير وبائع جوّال على عربة.
محمد سبسبي عقد خطوبته على فتاة قبل ثلاثة أيّام من سفره وعاد جثة
إلى هؤلاء أيضاً كان هناك جندي في الجيش اللبناني من آل الجمل، يروي مقرّبون من عائلته أنّهم جميعاً وهم تسعة أفراد، الأب والأم وابنان وزوجتاهما و3 أطفال، باعوا كلّ ما يملكون من منزلين وفرش وذهب وسيارات، وخاضوا غمار البحر، لتكون النتيجة أنّ الأم عادت جثة هامدة، بينما مصير بقية أفراد العائلة لا يزال مجهولاً.
أقرباء هذه العائلة يسألون باستغراب كيف خاطر أفرادها برحلة على متن قارب غير آمن وغير مؤهّل لرحلات بعيدة، ولماذا لم يشتروا سترات واقية من الغرق، أقلّه لأطفالهم، وهي لا تكلّف الكثير بينما أنفقوا أموالاً طائلة لهذه الرحلة، وهل هم لا يدركون مخاطر الرحلة أم أنّه جرى استغلالهم من قبل المهرّبين؟
هؤلاء المهرّبون الذين أوقف بعضهم سابقاً ازدهرت أعمالهم في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ بداية تفاقم الأزمة المعيشية والانهيار المالي قبل أقل من 3 سنوات. تلفت مصادر أمنية متابعة لـ»الأخبار» إلى أن العام الماضي «شهد نشاطاً ملحوظاً لأعمالهم إلى أكثر من الضعف، مقارنة بالسنتين السابقتين، وأنّ المهاجرين غير الشرعيين يتوزّعون بين جنسيات لبنانية وسورية وفلسطينية تحديداً، أغلبهم تقريباً من مناطق شمال لبنان أو يقيمون فيها».
وأضافت المصادر الأمنية إنّ هؤلاء المهرّبين «يستغلون جهل الناس وسعيهم للخروج من لبنان بأيّ طريقة، وعدم خبرتهم في البحر وكيفية السفر فيه، فيوهمونهم بأنّ السفر آمن وليس هناك أيّ خطر عليهم، لكن عندما يحين موعد السفر يتبيّن لهم أنّهم خدعوا وأن اليخت الموعود هو عبارة عن قارب بسيط».
من ملف : لعنة البحر الشمالية: ألا نعرف الجناة؟