Site icon IMLebanon

طرابلس قلعة العروبة والسيادة والاعتدال

 

ومتى لم تكن طرابلس في عين العاصفة؟ ومتى لم تكن هدفاً لصُنَّاع الفتن من كل حدب وصوب؟ ومتى لم تكن على مرمى المتآمرين عليها، خوارج الداخل، ومخططات الخارج؟ هذه المدينة الساحلية الرائعة، المتعددة الانتماءات والأفكار والطوائف والأحزاب والثقافة والابداع، حاضنة التاريخ والنضال من أجل جلّ القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، هذه المدينة العروبية المنفتحة على العالم والتاريخ والجغرافيا والمستقبل والموروث، جامعة الأمس والحاضر والمستقبل، متى لم تكن عرضة للاختراق من قوى الطغيان والاستبداد والتنكيل والتشويه والتسفيه والترهيب وساحة لكل الذين يعتملون شروراً لها، وللبنان؟ حاضنة العروبة، بمعانيها الحضارية والمدنية، كانت دائماً في مطالع الطموحات السيادية والاستقلالية والحرية. أُريد لها دائماً أن تُصَوَّر على ما ليست عليه! فالنظام السوري كان له على امتداد وصايته المقيتة على لبنان، الحصة الكبرى والدور الأبرز في ممارسة الارهاب والقمع والتنكيل بأهلها وبمكوناتها وانفتاحاتها وبمناضليها. وحتى بثقافتها. ومن هنا لا يذكر كم تحملت هذه المدينة من خراب وتدمير وقتل وقمع من ذلك النظام الذي حاول، ترويضها بالعنف لتخضع لاستبداده، منذ قيامه وحتى تهاويه نثاراً. 

طرابلس أراد لها اعداء لبنان والعروبة، من النظام البعثي ان تكون دائماً على رمال رجراجة وعلى أمن مضطرب وقلق مستديم وخراب موصول. ألم يعمد نظام الوصاية السابق إلى خلق «بؤر» متطرفة داخلها ومناطق عدائية لها وجماعات تقسيمية حولها، كمثل آل عيد وسواهم في جبل محسن لتعيش حالات حروب ليست منها، وليست لها ولتكون أداة لاذلالها: إما ان تخنعوا أو خرابكم!

اما أن تركعوا أو الموت. ونظن ان مشاعر الكراهية والعدائية والتربص تصاعدت وتمادت عندما التفت هذه المدينة بأكثريتها (التعددية) حول ثورة الأرز وكانت مساحة حية لتبني خياراتها من المطالبة بالسيادة والاستقلال والديموقراطية وخزاناً ثرياً، ضخماً للتحركات والتظاهرات التي اخرجت جيش الوصاية السورية من لبنان؟ هي مع الوطن، لبنانها، إذاً هي على اللائحة السوداء! هي مع العروبة المتفتحة «الفيحاء». إذاً هي في سجل المؤامرات! ومن ثورة الأرز إلى ثورة الشعب السوري ضد نظامه المستبد، المجرم، الظالم، كانت الرئة الواسعة التي تتنفس منها هذه القضية التاريخية، وهنا بالذات، ومن كل هذين الموقعين اللذين اختارتهما طرابلس، أي تبني ثورة الأرز، والمساهمة العالية بها. وتبني الثورة السورية نشطت المؤامرات حولها. وهذا المخزون البشري والثقافي والعروبي والابداعي، والسيادة، فليردَم أو فليُشوُه، أو فليُحاصَر، أو فلتُكسر حقائقه. كان لطرابلس أن تكون الضحية الخالصة: عملاء جبل محسن، بدعم من الجيش السوري وحزب الله وبمشاركتهما المسلحة سلطا عليها عدوانها، وجعلوها بؤراً لحروب، اتخذت وجهة مذهبية، اقصد النظام المذهبي والحزب المذهبي، أراد «مَذْهَبية» هذه المدينة، بالعنف واسترجاع صور الحرب الطائفية في لبنان على مساحتها. قٌسمت وكأن جبل محسن بات خارج لبنان ، محمية سورية مسلحة من المرتزقة والعملاء والمجرمين ناشري الفتن والخراب، و»محجاً» لكل خارج على الدولة، وعلى السلم الأهلي، فاختزلوا طرابلس في وجهتين مذهبيتين: الوجهة العلوية المرتهنة بالبعث «المذهبي» وبحزب الله، والآخر بمنطقة التبانة «السنية». وهنا بالذات، كان للدولة، وبأجهزتها وقواها، إما ان تكون غائبة او تساوي بين الضحية والجلاد أو تنحاز بكل أسف وبطرق مخابراتية خسيسة، إلى قوى الظلام. وهكذا عاشت طرابلس جلجلة جديدة (نتذكر جيداً جلجلتها الطويلة مع نظام آل الأسد في الثمانينات وتهديدها بالتدمير على طريقة ما حل بحماه، استعملت فيها كل أسلحة التحريض، والتغريض، والتشويه «التطرف» بها والحاقها بالقاعدة او تصويرها وكأنها «قندهار» لبنان. وعندما كان للدولة ان تحسم المعارك بين جبل محسن والتبانة وطرابلس كلها قلنا انها جلجلة وانتهت، ثم تساءلنا: متى الجلجلة المقبلة؟ وكان السؤال في محله. فالقوى التي صنعت الفتن، وصبغت أهل طرابلس بالارهاب والتطرف والتعصب والتكفير وقسمتها إلى طرابلس وأكثر، ما زالت موجودة. وهروب آل عيد وعملاء النظام السوري وحزب الله من معاركها ولم يكن يعني انهم تخلوا عن التآمر وادواته، وعن التشويه واعلامه وعن الفتنة وسمومها. فطرابلس التي انتصرت في تلك المعارك بوحدتها، ووطنيتها، وانتماءاتها عضت على جروح ثخينة وعلى آلام كثرى. فالنظام السوري من وضع سيئ إلى أسوأ. وحزب الله، وبحسب هذا الواقع لبى نداء «ولاية الفقيه» لينقذ حليفه «العلماني» وكان من متطلبات عدوان حزب محتشمي على الشعب السوري، ايجاد معادلات أخرى لتبرير تطرفه ومذهبيته. هنا جاء دور عرسال… وعودة إلى طرابلس. وتفاقمت الأمور عندما ساهم التطرف المذهبي «الجهادي المضحك» لحزب الله في سوريا والاحتلال الإيراني للعراق بخلق شبيهه «الفرانكشتاني» أو المسخ ، أو الذي فبرك في مصانع النظام السوري الإيراني وأفلت منها من «خالفيه»!. وأقصد داعش بالذات.

هنا بالذات كان لعرسال الحصة الوفيرة من الاستهداف، لكن طرابلس لم تنجُ (مثل صيدا عبرا، وقبلها بيروت 7 أيار والجبل). وها هي من جديد تدفع اثماناً باهظة وها هي في طريق جلجلة جديدة: توسعت الاتهامات هنا، لتصمها بالارهاب. فبعدما لوثت صورتها بالقاعدة… وبن لادن، انتقلت اسطوانة النظام وحزب الله إلى نغمة شبيهة: طرابلس كلها داعش! طرابلس بين داعش والنصرة، السنة متطرفون. ارهابيون. من سمة ارهابية إلى طائفية شاملة. هذا ما فعلته ايران في العراق أيضاً عندما جعلت كل «السنة» فيها ارهابيين وقتلة وعملاء. ايران الارهابية المذهبية الخالصة، تجعل سُنة العالم كله «ارهابيين» (هذا ما حاول فعله بوش الابن في تحالفه التاريخي مع نظام الملالي عندما اسقط نظام صدام حسين وسلَّم العراق كله لايران «المتشايعة» (أي التي تجعل الشيعية قشرة برانية تموّه بها فارسيتها القومية المعادية للعرب، حتى كأنما انقسم الإسلام إلى «شيعية» فرس من الملائكة والطوباويين والقديسين وهم أهل «السلم» والعفة و»سُنة» من أهل النار والشيطان والتعصب والارهاب والذبح والقتل والتكفير. (رواد التكفير الايرانيون ها هم يتهمون الآخرين بالتكفير) صار عند النظام السوري (الذي لم يحارب داعش في مساراتها الأولى بل الجيش الحر) وحزب الله الذي بدأ بتكبد الخسائر في القلمون وفي سوريا ان يعكس خساراته ونكساته السياسية على الوضع اللبناني كله اي حتى على الحالة السياسية، أقصد تحديداً على 14 آذار، وتخصيصاً على تيار «المستقبل» وأكثر على كل السنة في صيدا (جُعل احمد الأسير قضية أكبر من حجمه ليكون تبريراً لوصم صيدا كلها بالارهاب والتكفير) وبيروت والشمال وطبعاً في طرابلس. ونشطت الحملات الاعلامية الشعواء والبذيئة من منابر الحزب «ومناره» الداعشي ومرتزقته، ومن ابواق النظام السورية: طرابلس (وعرسال طبعاً) هي مستقر ومنتجة للداعشية. من بن لادن إلى البغدادي تؤوي التكفيريين والمتطرفين في أزقتها ومناطقها الداخلية. من جبل محسن والتبانة إلى عمق الفيحاء: المؤامرة ذاتها، لكن داعش التي صلب عودها واشتد، وانزلت بالحزب هزائم مدوية، (ها هي في مواجهة الجيش اللبناني الذي حزم أمره في النهاية. والغريب، أن حزب محتشمي الذي رأى في داعش «مُعادِلة» الارهابي، ها هو يحاصر عرسال، ويمنع وصول المساعدات الطبية اليها، في عز معركة الجيش مع داعش والنصرة! فما اروع التكفيري عندما يلاقي التكفيري في منتصف الطريق! أُبْلِسَت طرابلس، وبُغْدِدَت! وصُوَّر حزب محتشمي نفسه وكأنه، في المقابل، يحارب في سوريا «داعش» ولولاه لوصلت داعش إلى بيروت (لكنهم وصلوا إلى الضاحية يا عباقرة إيران، إلى عقر جماهيريتكم العظمى) وانه يحارب دفاعاً عن لبنان (يدافع عن نظام الوصاية دفاعاً عن لبنان! الله!). وعن فلسطين. رائع! ما هذه الملائكة الجهادية «الوطنية» التي ترفرف في سوريا… لتحرر فلسطين! (الجولان قريب جداً من الحزب حيدّه، واستهدف الثورة السورية!) رائع يا محرري فلسطين! فتيار «المستقبل« بقضه وقضيضه بات يدعم داعش، والحزب الداعشي مشغول بتحرير الوطن والاستشهاد من أجله ومن أجل القدس (لا تنسوا فيلق القدس! أوعى! وان كانت وجهته الشعب السوري!)

وبعد عرسال، كان للجيش أن يحسم أمره، ويواجه بؤراً داعشية، في طرابلس، وخاض معارك شرسة في الأحياء، والشوارع، والأوكار… وانتصر! سجل الجيش انتصاراً مبيناً على الإرهابيين الذين وسعوا جنونهم نحو عاصمة الشمال. لكن علينا ألا ننسى انه لولا الاحتضان الشعبي الطرابلسي الرائع، والسياسي من قبل «تيار المستقبل» ومساهمة الناس بدعم جيشهم، لما نجح هذا الأخير في تسجيل هذا الحسم وبهذه القوة. هذه الجلجلة الداعشية كسابقتها «البعثية» الفارسية، خلفت دماراً كبيراً يُذكر بالدمار الذي أحدثه عدوان النظام البعثي على طرابلس في الثمانينات (أُعْدِم ألف مواطن ميدانياً بآلة النظام أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد). أنقول إنها جلجلة أخرى وانتهت؟ أنقول الآن أنه «قطوع» آخر وعبر؟ أنقول إن «المراكز» والأقبية المؤامراتية سلّمت بالأمر الواقع، عندما صفقت لانتصار الجيش؟ ظاهرياً، وهي تستعد لمراحل جديدة من الأذية، والتخريب؟

من الصعب القول «كلا»! لمعرفتنا بطبيعة هؤلاء المتآمرين من حزب الله وصنوه الشبيه داعش والنصرة. فلا حزب الله والنظام السوري، سيتخليان عن مخططاتهما ولا «داعش» و»النصرة» ستكفان عن تمديد جنونهما الإرهابي عليها. وإذا كانت طرابلس بين فكي النظام السوري وحزب الله (عبر آل عيد!)، فها هي الآن، ما زالت عرضة أن تكون بين فكي الممانعين والمقاومين (ما شاء الله!)، وبين الإرهابيين. ولكن يبقى هذا الوضع «قائماً» ببقاء عوامل التفجر قائمة، بأسبابها العينية، واختلاقاتها الاحتمالية: فإدامة التحريض المذهبي على أهل الفيحاء، واستمرارية بخ الفتنة، واستعارة الاتهامات المعروفة، واستدراج الخلايا الممكنة، كلها ما زالت «حيوية» في مختبرات الحزب الإلهي المحتشمي، السليماني. وسلمية أهل طرابلس، ورفع راية الدولة، والانشداد نحو القضايا العروبية، ومساندة عدالة الشعب السوري، قد تؤخذ كلها كذرائع، لإعادة رسم الصورة «المذهبية» لطرابلس. فالدويلة الجماهيرية الفارسية وعاصمتها ضاحية المقاومة المرحومة، لا يمكن أن تتحمل وحدوية المدينة، ووطنيتها وتعدديتها، وإيمانها بلبنان الواحد، وإنتماءاتها المدنية. فكل لبناني يؤمن بالدولة اللبنانية الواحدة معرّض لما تعرّضت له طرابلس. فما بالك إذا كانت العاصمة الثانية، هي سيدة ممانعة التقسيم، والدويلات المذهبية، والجيوش المذهبية بميليشياتها الفارسية. خطيئة طرابلس الأصلية المميتة أنها واجهت النظام البعثي المذهبي، وتآمره على القضية الفلسطينية. وخطيئتها الأخرى أنها لم تخضع له، ولا للحزب الذي صدرته إيران وبات «فخر صناعتها الوطنية». فهل سيكف هذا الحزب وحلفاؤه عن سياسة التخوين والتكفير، وممارسة العنف، والإلغاء، ووضع جانباً سلاحه التحريضي والمذهبي! فهل سيكتفي الحزب بهزائمه في سوريا، ويعود أدراجه إلى لبنان؟ لا! طبعاً! فالأمور كلها ليست لا في يده ولا في إرادته، ولا في قرارة نفسه، ولا في وجوده. فما دام الأمر كذلك، نعيد الأسئلة التي باتت مألوفة «أتكون ما تعرضت له طرابلس أخيراً، «جلجلتها الأخيرة»؟ ربما نعم! وربما لا! فالحزب بات يستمد «شرعيته» المذهبية من داعش والنصرة.

ولكن على الرغم من ذلك، وبخفر شديد نقول نعم! ما زالت طرابلس قوية بانتماءاتها السيادية، والمدنية والاستقلالية، والعروبية. والمدينة التي آمنت بوحدة العرب، لا يمكن أن تؤمن لا بالانعزال ولا بالتقسيم المذهبي: هكذا بقيت حضناً للجميع في أحلك أزمنة الحروب في لبنان على امتداد أكثر من عقدين. لكن هل يستطيع أهل طرابلس الأبطال أن يردوا وحدهم كل المؤامرات؟ مقسمي الدولة، ومعطلي مؤسساتها، وزارعي الفتن، والسلاح؟ طبعاً لا! فطرابلس التي ناضلت من أجل وحدة لبنان، تحتاج إلى كل الذين ناصرتهم، وفي طليعتها الدولة (أو ما تبقى منها)، والجيش، وقوى الأمن، حاجتها إلى التنمية، والعدالة، ورفع الظلم الاجتماعي عنها، وتحسين وضعها الاقتصادي!

فلو كانت المسألة أساساً أمنية، لُحّلت بالحسم العسكري؛ لكنها أبعد من ذلك، إنها مسألة شاملة، تبدأ بوضع الجيش والقوى الأمنية مخططات جذرية، لإزالة كل بؤر السلاح غير الشرعي سواء في الجنوب أو البقاع أو الضاحية. فالبؤر المسلحة في طرابلس لا تنفصل عن وجود سلاح حزب الله! وعندما يتم جمع السلاح في طرابلس، واعتقال من يحمل مسدساً أو بندقية، ألا يجدر تعميم هذه الإجراءات، ليكون هناك شعور بالعدالة، والمساواة. وعندما تحارب النصرة لإقامتها شريطاً خارج الدولة، ألا يجدر بمحاربة كل الكانتونات الانعزالية المحرمة على الدولة والجيش!

جلجلة أخرى لسيدة العروبة والاعتدال والسيادة. ربما! لكنَّ هؤلاء الطرابلسيين، اللبنانيين حتى الرمق الأخير، لن يخذلوا أنفسهم ويخطئوا، وسيبقون على أهبة دائمة لمقاومة كل المحاولات لتجديد أي جلجلة في مدينتهم حتى ولو خذلهم الجميع!

بول شاوول