Site icon IMLebanon

طرابلس قلعة مزنّرة بالفقر وصورة للإرهاب الاجتماعي الاقتصادي!

تغرَق الدولة اللبنانية في أزمة النفايات، وتتخبّط غيرَ قادرة على إيجاد «خشبة الخلاص» لإنقاذ البلد وشعبِه من مشكلةٍ لا يمكن تركها بلا حلّ، فتَسقط المطالبة بها مع «مرور الزمن» كبَقية المشكلات، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية.

وجه التطرّف الحقيقي ومسَبّبُه الأساسي هو الوضع الاجتماعي-الاقتصادي المترَدّي وليس الأمنيالرافعي لـ»الجمهورية»: البلدية ستعمل على فرض النظام وتطبيق قانون السير الجديد

على مدى سنوات عدّة حازت بيروت وضواحيها على نسبة الاهتمام والإنماء الأكبر من الحكومات اللبنانية المتعاقبة، في حين تمَّ إهمال المناطق الحدودية الشمالية والجنوبية والبقاعية. أمّا اليوم ورغمَ تلك السياسات فتحافظ تلك المناطق على نظافة شوارعها، بينما أصبحت بيروت جبَلاً، إنّما من النفايات.

وبعيداً من بيروت ومن أزمة النفايات، ما هو وضعُ المدينة التي شُوّهت صورتها واستُخدمت في المعارك «الأرضية» والمعارك الإعلامية في سبيل مصالح حزبية وشخصية.

إستحوذت أخبار مدينة طرابلس خلال السنوات الأخيرة على حيِّز كبير من التغطية الإعلامية. إلّا أنّ الصورة المنقولة حُصِرت إلى حدّ ما بالوضع الأمني لعاصمة لبنان الثانية. تضخيم الأخبار عن «الفلتان الأمني» و»الإرهاب» في المدينة الشمالية ذات الكثافة السنّية زرَع الخوف في نفوس اللبنانيين فأحجَموا عن قصدِها وزيارتها. لكنّ وجه التطرّف الحقيقي ومسبّبَه الأساسي هو الوضع الاجتماعي-الاقتصادي المتردّي وليس الأمني.

الزحمة الخانقة

الزحمة الخانقة المضيف الأوّل في طرابلس. زحمة سيارات و»زحمة سكّان» تزداد يومياً مع نزوح أهالي القرى الشمالية من عكّار والضنّية وغيرها إلى المدينة بحثاً عن عمل وعن حياة أفضل، بالإضافة إلى العدد الكبير من اللاجئين السوريين الذين يزاحمون أهلَ المنطقة على أعمالهم ولقمةِ عيشهم، بحسب «شكاوى» أهل طرابلس الذين لا يكفّون عن إعلان نقمتِهم ومعاناتهم من هذا الوضع.

النفايات و»البَسطات» زينة طرابلس الدائمة تماماً كزحمة السير الخانقة. نهر أبو علي تحوّلَ إلى ممرّ للمجارير ومستوعَب للنفايات يَغرق فيه فقراء المدينة بَحثاً عن أيّ شيء يُباع أو يُستعمَل.

المباني المتصدّعة والمنهارة ما زالت موجودة وصامدة لتحرّكَ الذاكرة وتنكَأ الجراح فتبقى الشاهدَ الصامت على المعارك بين أبناء المدينة الواحدة. معارك وجَولات قتالية انتهَت باتّفاق سياسي وخطة أمنية بعد تشويه صورة المنطقة وبعد موت وسَجن عدد كبير من الشبّان، إلّا أنّ صورة «الزعيم» تبقى الثابت الدائم!

أمّا الحدائق في طرابلس فلا تعجّ بالعائلات والقرّاء والمشاة بقدر ما هي مكان تجَمّع الباعة والمتسوّلين صغاراً وكباراً.

القانون أضاع طريقَه إلى عاصمة لبنان الثانية، فعددٌ كبير من المحالّ التجارية والبَسطات والمطاعم والمقاهي يعمل من دون تراخيص ومن دون اعتماد الحدّ الأدنى من المعايير الصحّية، العمران عشوائي، والتشَوّه البيئي والنظري مخيف. كما يَظهر أنّ قانون السير يخاف بدوره زيارةَ المدينة، فالسيارات «عمومية» واللوحات «خصوصية، سيارات بلا لوحات، المرور عكس السير ورَكن السيارة في أماكن ممنوع الوقوف فيها عادةٌ عامّة!

منعَت البلدية انتشارَ «البسطات» في بعض الأماكن، ومنها ساحة التلّ، إلّا أنّ الزائر يراها مسيطرة بشكل كبير في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان. وكما ميادين العمل المختلفة فللسوريين حصّة أيضاً في البسطات.

يُجمِع الباعة «أصحاب البسطات» على أنّ هذه السَنة أفضل من السنوات الأخيرة، فالوَضع الأمني جيّد بعد إنهاء المعارك بين أبناء المنطقة الواحدة وسيطرةِ الجيش وانتشاره في أنحاء المدينة. وجود القوى الأمنية والشرطة البلدية الذي أدّى إلى اضمحلال ظاهرة «الزعران» و»الأبضايات»، بالإضافة إلى أنّ أمان طريق جبل محسن-التبّانة التي تربط عدداً من المناطق بطرابلس حَفّزَ سكّان المناطق والقرى الشمالية على العودة للتبَضّع.

الأحياء والأسواق الشعبية تطغى على المدينة، حيث الأسعار المنخفضة هي الجاذب للفقراء، وحيث المعايير الصحّية منعدمة، فتُباع اللحوم والأسماك والحلويات في الهواء الطلق خارجَ «البرّادات» بين الثياب والألعاب وإلى جانب النفايات.

تأتي النسوة للتبَضّع من الأسواق الشعبية لتأمين أيّ «لقمة» للأطفال، فترى امرأةً تشتري بالنقود المعدنية من (250 و500 ل.ل.) بعدما كانت جمعتها خلال الأسبوع!

وامرأة أخرى تأتي إلى السوق حاملةً ما توَفّر، تترك بدلَ أجرة النقل جانباً وتصرف ما تبَقّى. الأولوية للطعام، ومن ثمّ الحلويات حتى ولو عادت إلى أولادها بـ»قضامة بسكّر». أمّا الألعاب فهي ترَفٌ لم ينعم به أولادها منذ سنوات عدّة.

بائعو الألعاب من أصحاب المحالّ والبسطات هم الأقلّ حظّاً والأقلّ بَيعاً، إذ إنّه لا يتبقّى لمعظم الأهل من المال ما يكفي لابتياع الألعاب لأولادهم.

البَيع والاسعار تختلف بين محالّ الحلويات في الأسواق الشعبية، مثل سوق العطّارين وسوق العريض… وبين المحالّ الكبرى في وسط المدينة، فقد يصِل الفارق بين الأسعار إلى أكثر من الضعف. يؤكّد أصحاب محالّ الحلويات أنّ انخفاض الأسعار يقابله انخفاض في البَيع حتى خلال عيد الفطر أخيراً، فالفقير الذي لا يملك المال لن يستطيع شراءَ الحلويات مهما تدنَّت أسعارُها.

رئيس البلدية

أكّد رئيس بلدية طرابلس عامر الرافعي «أنّه لا يحقّ للبلدية السماح بخلق أو تثبيت وضعٍ غير شرعي حتى ولو كان لفائدة الناس أو الفقراء، وبالتالي اعتبَر أنّ وجود البَسطات في ساحة التل موَقّت ومحَدّد بأيام شهر رمضان العشرة الأخيرة فقط. فغَضّت البلدية النظر عن هذا الوضع لأنّه عرفٌ يعود لسنوات قديمة». وشَدّدَ على «رفض ومنع انتشار هذه الظاهرة في أماكن وشوارع أخرى، فتمَّ قمع وإزالة البسطات بوجوده الشخصي من شارع عزمي.»

واعتبَر الرافعي، في حديث لـ»الجمهورية» أنّ مِن أسباب إزالة البسطات «أنّ الباعة لا يحصلون على أكثر من 15000 أو 10000 ل.ل. يومياً ، فيوجد مافيات وراءهم تأخذ منهم ما يجنون من أرباح.»

وبالنسبة إلى الوضع الأمني، أشار الرافعي إلى «أنّ أمن طرابلس أكبر مِن مسؤولية البلدية، وأنّ الجيش اللبناني والقوى الأمنية فرَضوا الأمن»، معتبراً «أنّ التنسيق بين البلدية والمحافظة وسَريّة درك طرابلس ساهمَ في استقرار الأمن خلال الأشهر الأخيرة، ومنها شهر رمضان، فلم يحصَل أيّ إشكال خلال هذه الفترة، ممّا جعلَ هذه السَنة الأفضلَ على الصعيد الأمني منذ سنة 2008»، مشيراً إلى أنّ غرفة العمليات وكاميرات البلدية وجهوزية شرطة البلدية تساهم بشكل أساسي في ضبط الأمن وكشفِ المخِلّين».

وأكّد الرافعي «أنّ البلدية ستَعمل على فرض النظام وتطبيق قانون السير الجديد رغم تأثير ذلك على مصالح الناس ورغم الضغوطات» معتبراً أن «لايمكن استعادة مدينتنا إلّا مِن خلال النظام»، وردَّ الرافعي سبب التأخّر في اتّخاذ هذه الإجراءات إلى أنّه «استلمَ مهامَّه في شهر أيار وانشغلت البلدية بترتيبات شهر رمضان (حزيران).»

لا تحسّن في الحالة الاجتماعية

في طرابلس صومُ رمضان للفقراء والأغنياء، أمّا العيد فللميسورين فقط. أتى العيد ورحلَ، وما بعده كما قبله ولا تحسّن في الحالة الاجتماعية.

في شارع عزمي يَختلف المشهد عن أسواق وأحياء طرابلس الأخرى، فتنتشر المحالّ التجارية الكبيرة و»الماركات»، الزحمة أقلّ، الفوضى أقلّ، المعايير الصحّية أفضل بكثير… وفي هذه السوق يمكن أن ترى نساء يَبتعنَ الحلى و»الأكسسوارات» التي لا تستطيع النساء في المناطق الأخرى حتى تخيّلَها، فلربّما لم يرين منها في حياتهنّ!

على مقربة من شارع عزمي ومن «القصر» البلدي رجلٌ عجوز يفترش الرصيف متّكئاً على الأرض. تمتنع عن إيقاظه للحديث معه علّه يعيش في أحلامه حياةً أفضل! يُخبر المارّة عنه أنّه وحيد ودائم التشرّد، ويؤكّدون وجود حالات أخرى مثله.

وما نفعُ الخططِ الأمنية وفرضِ النظام والنشاطات والزينة إنْ لم تُمَدّ يدٌ واحدة لإطعام أو إسكان عجوز لا يَعطف عليه إلّا الأولادُ ماسحو الأحذية أو «الشحاذون» المنتشرون بكثرة؟! في البلد الواحد، في المدينة الواحدة، وفي المنطقة الواحدة… «ناس بالبارات» وبالقصور والمقاهي يَحتفلون، وناس لا ترى في أعينهم إلّا انعكاسَ اللاعدالة واللاإنسانية.