عندما تختار مجموعة أن تهاجر على متن «عبّارة الموت»، تسأل نفسك: هل هذا انتحار جماعي أم طلب للموت الرحيم؟ وأي يأس هذا الذي يدفع بأصحاب هذا الخيار إلى المخاطرة بحياتهم وحياة عائلتهم؟ هل الحياة في طرابلس مخيفة أكثر من غدر البحر؟ وهل في طرابس حياة أصلاً؟ تراهم يفضّلون المراهنة على سفرة قد لا ينجون منها طمعاً بحياة في الخارج، على البقاء حيث لا احتمال ينتظرهم غير الموت. وكما يقول من نجا «في كلتا الحالتين نحن ميتون، ممَّ سنخاف؟».
نتيجة الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان، ازدادت محاولات الهروب من «الجحيم» براً، بحراً وجواً. وتصدّر الشمال قائمة الهجرة غير الشرعية من بوابة ميناء طرابلس إلى جزيرة قبرص أو الدول الأوروبية. في طرابلس تحديداً، المدينة التي لطالما عُرفت بالإهمال والحرمان، يتعدّى المقيمون كونهم فقراء، صاروا معدومين. ولم تعد الحياة لديهم تطاق. لذا يهربون. وحتى من رأى الموت بعينيه في عرض البحر سيعاود المحاولة بالطريقة ذاتها. لماذا؟ لأن في طرابلس مليون سبب للهروب.
البيع بالحبة
ما إن تدخل طرابلس حتى ترى الفقر معروضاً للفرجة في مستديرة أبو علي من خلال عدد المتسوّلين وبائعي المناديل والعلكة، والذين يعبثون في مكبات النفايات. تمشي قليلاً، فتجد شباناً يحملون عبوات الماء والصابون ويعرضون عليك مسح زجاجة سيارتك. ليسوا في محطة وقود بل على قارعة الطريق. تدخل السوبرماركت، فتجد «الحفاضات» تباع بالحبة، والزيت النباتي بالكيلو. تقصد اللحام فيصدمك طلب سيدة «لحمة مفرومة بـ5 آلاف ليرة»!
يهرب أهالي طرابس من الجوع المحدق بهم. لم يعد بعيداً عنهم. كثيرون بدأوا يختزلون وجبات غذائية ويكتفون بوجبة واحدة يومياً وتخلوا عن اللحوم والدجاج والسمك، وصارت موائدهم لا تحتوي غير العدس والحمص والبرغل. وفي أحسن الأحوال يشترون الخضر. يتحايلون على أطفالهم برضاعة ماء مع الرز المطحون لأنهم عاجزون عن شراء الحليب. تقول عتاب التي تقطن في باب التبانة: «طرابلس حزينة على فقر غير طبيعي يضرب أبناءها ويزداد قساوة مع الأيام». وتروي كيف صار «شراء ربطة الخبز بدو ألف حساب، وفراغ جرة الغاز نكسة بحد ذاتها». تملؤها بـ100 ألف، وأحياناً «أتوقف عن الطبخ لأيام حتى أجمع ثمنها». يعمل زوجها في معمل لإعادة التدوير، ويتقاضى 450 ألفاً في الأسبوع. تخلت عن اشتراك الكهرباء، و»لا أستطيع تحضير غير وجبة غذاء واحدة أقدّمها للعائلة مساء»، ولأن جارتها سمعت بكاء أطفالها الأربعة جوعاً صارت ترسل إليها طبقاً مما تحضر كل يوم.
لا تدفئة ولا طبابة
يهرب أهالي طرابلس من الحرمان والعوز والشحادة. «فلا أكل مثل العالم، ولا لباس، ولا منزل»، كما تقول آسيا المسؤولة عن ستة أطفال بعد وفاة زوجها. تعيش في غرفة واحدة خالية من الأثاث الذي باعته لتأكل. وعندما لم يعد هناك أي شيء لتبيعه، «صرت عايشة عالشحادة من الجمعيات والدَّين من أصحاب المحال». من يسكن في طرابلس يخاف من شتاء قارس لا قدرة له على تحمله، تماماً كما حصل في الشتاء الماضي عندما نخر البرد أجسادهم وجمّد أطرافهم فيما منازلهم خالية من السّجاد ومن وسائل التدفئة. يهربون من أعمال أقل ما يقال عنها إنها «أعمال سخرة». فهم يكدحون لساعات ويعملون دوامات إضافية مقابل أجور زهيدة لا تكفي لسدّ رمق العيش. ويهربون من رقعة تقلّ فيها فرص العمل ويزداد الشبان والشابات العاطلون من «الأمل».
يهربون أيضاً، من مرض عاجزين عن مداواته. فإن كانت هناك مستوصفات شبه مجانية تسهّل العلاج، من أين يأتون بالأدوية؟ تروي زينة ما حصل معها منذ ثلاثة أشهر، «عانى ابني (7 سنوات) من غثيان وإسهال، فأخذته إلى مستوصف الرحمة حيث الكشوفات بثلاثة آلاف ليرة فقط. لكنهم وصفوا له دواء لا أملك ثمنه، فعملت بنصيحة إحدى الممرضات وأطعمته البطاطا المسلوقة». من يحتاج إلى عملية جراحية أو أي علاج عليه أن «يتعايش مع المرض»، تتأسف سيدة تعيش في باب التبانة. ابنها، يعرج في مشيه جراء عملية جراحية في ظهره. ينصحها كثيرون بإخضاعه لجلسات العلاج الفيزيائي، لكن «من أين آتي بتكاليفها»؟
عمالة الأطفال
ولأنهم لا يريدون أن تتكرّر مأساتهم مع أطفالهم، يريدون لهم قدراً مغايراً لقدرهم، يهربون من مستقبل أسود ينتظرهم في طرابلس. فالطفولة في طرابلس مبتورة ومشوّهة. بعد سنتين من التعليم عن بعد واشتداد حدة الأزمة الاقتصادية، تسرّب كثير من الأطفال من مدارسهم. فتحوّلوا إلى منتجين ومعيلين لأسرهم. يجري استغلالهم في أعمال خطرة لا تتناسب مع نموّهم البدني والذهني لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة. يعمل الشقيقان معتز (8 سنوات) ومحمد (10 سنوات) عتّالين في سوبرماركت في القبة. يحملان الصناديق منذ الثامنة صباحاً حتى الخامسة عصراً مقابل 150 ألفاً في الأسبوع. حاول صديقهما مروان (11 عاماً) أن يساعد والده في المصروف أيضاً. قصد «الدكنجي» واشترى صندوق مفرقعات لبيعها لأبناء الحي. خرج من المحل، وجرّب واحدة فأعجبته، ثم راح يجرب الثانية فالثالثة حتى وقع الصندوق من يده وعلا صوت المفرقعات، فراح يضحك عالياً وهو يقول: «بدلاً من أن أساعد والدي حمّلته دين صندوق المفرقعات».
لا يرتبط «الجحيم» في طرابلس بالفقر والحرمان فحسب، فالناس يهربون من الذل الذي لا ينفك يطاردهم. الذلّ الذي يرتبط بالعتمة مع غياب التيار الكهربائي أكثر من سبعة أيام على التوالي وتحكّم أصحاب المولدات بساعات التقنين، وبفقدان الدواء، وانعدام الأمن. تقول سيدة تعيش في القبة: «صرنا نخاف أن نمشي في الشارع بسبب انتشار السلاح المتفلّت وعصابات السرقة والتشليح». ولأنهم يريدون لأنفسهم وأولادهم حياة كريمة يهربون. منهم من يلقون حتفهم على «عبّارة الموت»، يبتلعهم البحر، فيعودون جثثاً هامدة إلى طرابلس. وآخرون ينجون ويصلون إلى وجهتهم. فإما يعاد ترحيلهم إلى طرابلس ليعيشوا حياة الأموات، أو ينجحون في الخلاص من مدينة الحرمان فيحيون من جديد.